شهادة حية على التعذيب في سجن أبو غريب
" لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة "الاعلان العالمي لحقوق الانسان"(المادة الخامسة)
د. عبد الحسين شعبان:
التعذيب ظاهرة مشينة وهمجية تعود الى الماضي، حتى وإن استمرت في عالمنا المعاصر، ففي الدولة المدنية المتطورة حيث المواطنة التامة وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان يمكن من خلال المساءلة والشفافية ملاحقتها وتطويقها وإنزال العقوبات بمرتكبيها، خصوصاً وأنها ظاهرة مستهجنة ومدانة قانونياً وإنسانياً ودينياً وأخلاقياً. وإذا كانت ظاهرة التعذيب متفشية بل تكاد تكون روتينية في عالمنا العربي والاسلامي وبلدان العالم الثالث عموماً، فإن البلدان الغربية ليست بريئة منها سواءًا إبان تورطها في حروب خارجية واحتلالات عسكرية أو عقوبات جماعية وحصارات دولية، أو حتى في سجونها كما أشار الى ذلك التقريرالمفصّل لمنظمة العفو الدولية الذي صدر عام 1998. وتعاظم الامر بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر ) 2001 الارهابية التي استخدمت ذريعة للتجاوز على الحقوق المدنية في الولايات المتحدة في الحملة التي شنتها على الارهاب الدولي.
رغم الحزن والمرارة التي تنتابني وأنا أدعو الحاج علي القيسي لتقديم شهادته حول التعذيب في العراق، لكنه في الوقت نفسه آمل أن تكون هذه المقابلة مفيدة ونافعة لما يختزنه من المعرفة والتجربة والخبرة بما ينفع مناضلي حقوق الإنسان وجميع المعنيين بقضايا الحريات والإصلاح والديمقراطية ويكون رادعاً أخلاقياً وانسانياً لإدانة ظاهرة التعذيب النكراء، لانها تنتمي الى عالم الوحوش وليس الى عالم البشر. أرحب بكم وبالحاج علي القيسي الذي هو أحد ضحايا التعذيب في سجن أبو غريب الشهير. وأعتقد أن صورته سبقته إلى المحافل الحقوقية الدولية وإلى شاشات التلفاز وإلى الإعلام وإلى الصحافة في كل مكان.
هذه الصورة التي اشتهرت والتي سيتحدث عنها بعد أن نعرضها على الشاشة أيضاً. نرحب أيضاً بالدكتور الطيب البكوش وهذه فرصة لنلتقي به وهو مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان ومقره في تونس والذي له دور كبير في نشر ثقافة حقوق الإنسان والتربية عليها وذلك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وحتى هذه اللحظة، وقام بتدريب مئات بل آلاف من المتدربين على ثقافة حقوق الإنسان ونشر الوعي الحقوقي والديمقراطي بشكل عام، وتعدّ إسهاماته الفكرية والثقافية ذات شأن كبير في هذا الميدان. أرحب أيضاً بالسيدة جمانة مرعي ممثلة المعهد العربي لحقوق الإنسان في لبنان والذي افتتح الآن دورة جديدة لدراسات الماجستير على حقوق الطفل واتفاقية حقوق الطفل وهي بادرة طيبة بالتعاون مع عدد من الجامعات والمراكز الأكاديمية، كما أرحب بالآنسة ماجدة صبرا ممثلة مجلة "الشراع" اللبنانية في هذا اللقاء وبعدد من الباحثين العاملين في مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.
مثلما سبق أن قلت أتمنى أن يكون هذا اللقاء غير تقليدي وأن نبادر إلى حوار جماعي وندعو الأستاذ علي القيسي يتحدث بانسيابية عن تجربته، عما شاهده، وصادفه، وتعرّض له شخصياً أو ما تعرض له زملائه وما سمعه في معتقل أبو غريب. وفي الوقت نفسه أعتقد أن هذه فرصة لإدانة التعذيب كظاهرة مشينة ينبغي أن نتخلص منها في عالمنا العربي والاسلامي بعد أن سبقنا العالم بفارق شاسع وبخطوات حثيثة لتحجيم هذه الظاهرة وتطويقها والقضاء عليها وعلى كل ما له مساس للحطّ بالكرامة الإنسانية. على الرغم من أن العالم المتحضر، كما قلت، سبقنا بخطوات متقدمة على هذه الصعيد إلا أنه في الفترة الأخيرة انكتشفت ظاهرة وجود معتقلات سرية في العديد من بلدان العالم خصوصاً في بعض بلدان أوروبا الشرقية مثل رومانيا وبولندا وغيرها وهناك شكوك بوجودها في بعض البلدان العربية فضلاً عما يتعرض له المعتقلون في سجن غوانتانامو الذي لم تنكشف حقيقة ما يجري فيه حتى هذه اللحظة رغم ورود أخبار متواترة عن سؤ الأوضاع فيه، ولعل ما جرى في سجن ابو غريب والسجون الأخرى بعد الاحتلال الامريكي للعراق، كان قد وضع علامات إتهام كبيرة حول قيم الحرية وحقوق الانسان التي تشبثت بها الولايات المتحدة، والتي تعاملت بالضد منها وبخاصة مع البلدان النامية ومنها البلدان العربية والاسلامية طبقاً لمعايير انتقائية وازدواجية.
وقبل أن أعطي الكلام للاستاذ علي القيسي أود أن أشير الى أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم بموجب الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب لعام 1984. وقد اعتبر المشرّع الدولي أن مسألة إلغاء التعذيب تستحق الأولوية، ويمكن ملاحقة مرتكبيه أينما كانوا في أراضي الدول الأطراف الموقعة على الاتفاقية الدولية كما يمكن إجراء تحقيق دولي عند توفّر المعلومات.
التعذيب باختصار هو: عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أم عقلياً ( نفسياً ومعنوياً) يلحق عمداً بشخص ما، بقصد الحصول على اعتراف منه على عمل ارتكبه أو يشتبه أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه...
أترك الآن الكلمة أولاً كمقدمة واستهلال للأستاذ علي القيسي ثم سيتحدث الأستاذ الدكتور الطيب البكوش ونفتح فيما بعد باب المناقشة. تفضل أستاذ علي.
علي القيسي: بسم الله الرحمن الرحيم. (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيراً مما خلقنا تفضيلا)(1)
هذا هو شعارنا نحن ضحايا سجون الاحتلال الأمريكي. عندما كنت في المعتقل قررت أن أؤسس جمعية تهتم بشؤون المعتقلين وقضاياهم. وقد تم اعتقالي في 13/10/2003، في منطقة العامرية في بغداد وجرى نقلي إلى أحد المواقع العسكرية الأمريكية التي أيضاً فيها معتقل وبقيت فيها يومين ومن ثم تم نقلي إلى سجن أبو غريب. ولا أريد أن أطيل في التفاصيل، ولكن أول سؤال سُئلته أثناء دخولي سجن أبو غريب هو هل أنت سني أم شيعي؟ وسُئلت من قبل ضابط أمريكي ومترجم كان معه. وفي الحقيقة استغربت هذا السؤال وقلت له أنه لأول مرة يسألني شخص هذا السؤال، هل أنت سني أم شيعي؟ قلت له أننا وصلنا إلى مرحلة أنا لم أسمع شخصاً يسأل هذا السؤال لأحد، وصلنا مرحلة أن الإنسان حتى في الزواج لا يُسأل هذا السؤال عن مذهبه، فقال لي جاوبني فقط. وبدأ يطرح سلسلة اتهامات ومن ضمنها أنه أنت تكره السامية. والحقيقة هذه التهمة كانت غريبة عنّا وبخاصة في العراق، وعن شخص مثلي أنا، نحن معرفتنا بالسامية أن سام هو من آباء البشر فمن غير المعقول أن نكره شخص من آباء البشر ونحن في ثقافتنا العربية والإسلامية نعد آباء البشر من الأنبياء. فبدأ يوجه إلي سلسلة تهم ومن ضمنها أنه عندك تداخل جراحة في يدك، ولا بد أن يكون سببه مقاومة الاحتلال أو الهجوم على قوات الاحتلال. وقلت أن الطبيب الذي أجرى لي العملية هو الدكتور عماد سمسم رحمه الله، وزودته برقم هاتفه، وقلت له أن هذا الرجل أجرى لي عملية جراحية قبل بدء العمليات العسكرية ويمكنك الاتصال به.
في النهاية قال لي: إن عملية الحصان الحديدي في هذا الشهر، ومهمتنا أن نجمع أكبر عدد من وجهاء المجتمع والناس المؤثرين فيه والذين لديهم إطلاع على أوضاعه، نريدهم أن يتعاونوا معنا ويفيدونا في عمل تشخيص للعناصر التي تشكّل خطراً علينا كقوة محتلة في العراق. في الحقيقة لم يكن الوضع في العراق آنذاك في الخطورة التي هو عليها الآن، فاستغربت من هذا الطلب بالنسبة الى منطقتنا. فقال أنت لديك مشاكل مع الأمريكان وقد صرحت ضدهم في الصحف. وبالفعل كان في منطقتي ملعب أطفال كنا قد أعددناه كحديقة.
الدكتور شعبان: في أية منطقة؟
علي القيسي: في منطقة أبو غريب.
الدكتور شعبان: يعني أنت تعيش في منطقة أبو غريب أصلاً ودخلت سجن أبو غريب فيما بعد.
علي القيسي: قبل العمليات كان لدينا منطقة مخصصة لرمي الأنقاض، نظفتها وجعلت منها ملعباً للأطفال. بعد العمليات العسكرية التي حصلت في العراق بدأ الأمريكان ينقلون أنقاضهم من المطار ويضعونها في الملعب. وكثير من الناس قالوا: أنهم يتوقعون أن يصبح هذا المكان بوجود الأمريكان ملعباً وليس ساحة لرمي الأنقاض، والأنقاض كانت عبارة عن أطراف بشرية حتى كان من ضمنها مجلات وأشياء خليعة، وأنقاض بشرية من معركة المطار التي استخدمت فيها أسلحة متطورة، وحتى دكتور المستشفى في أبو غريب اتصل فيَّ، لأن هناك أناساً فقراء وحالتهم المادية صعبة.
الدكتور شعبان: توجد أحاديث كثيرة في الصحافة الغربية والأمريكية تحديداً على أنه استخدم الفوسفور الأبيض في معركة المطار أيضاً وليس فقط في الفلوجة مثلما انكشف مؤخراً، وإنما هناك استخدام للفوسفور الأبيض ولأنواع أسلحة متطورة أخرى في معركة المطار، لدرجة أن اللحم البشري كان يتفسخ وهو على الجسم وتتهشم العظام ويحدث نوع من التيبّس والاحتراق، فهل حصل هذا؟ وهل لديك معلومات عنها يمكن أن تفيد الرأي العام؟
علي القيسي: في الحقيقة، الأطراف البشرية، التي رأيناها، موجودة ضمن الأنقاض، أنا رأيت في المتاحف المصرية صوراً للمومياء، والأطراف البشرية كانت مشابهة للمومياء وهي متيبسة تماماً، وكأنما مرّ عليها مئات أو آلاف السنين، وهذا ما استغربناه. والدكتور في المستشفى اتصل بي وقال إذا حصل طفح جلدي فسببها تلوث كيمياوي أو مادة غريبة في منطقتكم، ونحن حاولنا أن نمنع الأمريكان وفهمناهم هذا الكلام (أي عدم رمي الأنقاض)، ولم يستجيبوا وحاولنا بعدها الاتصال بالصحف والمجلات وكان هناك صحافة في بغداد آنذاك، واستطعت الاتصال ببعض الصحافيين الموجودين في مناطق بغداد مثل الكرادة وغيرها وأبلغناهم، ونظمنا حملة إعلامية لهذا الأمر، ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك عداء بيننا وبينهم.
الدكتور شعبان: كم استغرقت فترة التحقيق معك؟
علي القيسي: التفتيش طبعاً هو من بداية الدخول، وهو كان مهيناً جداً.
الدكتور شعبان: التفتيش كان داخل المنزل.
علي القيسي: لا تفتيشي كان في الشارع.
الدكتور الطيب البكوش: إذن، اعتقالك كان سببه هو هذا الموقف.
علي القيسي: نعم بالضبط. وهو قال لي إنه يعرف أنه لدي مشاكل وأنني أعترض على رمي النفايات والأنقاض، فقلت له إنني لا أعترض على طريق السيارات الأمريكية، بل على هذه الطريقة في رمي الأنقاض وعلى هذه الحالة. قال أنت أيضاً اتصلت بالصحافة وإنك تتحدى الأمريكان، وكان هناك سلسلة اتهامات.
الدكتور شعبان: في فترة التحقيق، التفتيش أولاً كيف كان؟
علي القيسي: التفتيش كان مهيناً جداً، وأنا آتٍ من موقع من المفترض أنني قد فُتِّشتُ فيه، وكنت معتقلاً في موقع عسكري، لكن هم يتقصدون هذا الأمر.
الدكتور شعبان: أنت كنت في معتقل العامرية، فكيف جرى التفتيش والتحقيق معك في معتقل العامرية وصولاً إلى أبو غريب.
علي القيسي: لم يجر التحقيق معي في معتقل العامرية، التقيت فقط بكابتن قدم نفسه باسم فيليبس، وقال لي أن هناك جهة أخرى طلبتك وتريد التحقيق معك، ويبدو أن أهلك يعلمون باعتقالك في معتقل العامرية، وهناك مئات الأشخاص ينتظرون نتيجة تحقيقك، ولكن نحن لا نعرف عنك شيئاً، وسوف نحوّلك إلى سجن أبو غريب. في البداية أنا لم أكن أعرف أنني في سجن أبو غريب، الى أن قال لي أنهم سينقلونني إلى جهة أخرى، لأنهم عندما نقلوني وضعوا كيساً في رأسي وطرحوني في السيارة ووضع الجنود أحذيتهم فوق رأسي وكانوا أربعة أو خمسة يضحكون ويتهكمون وأحذيتهم. وعندما رفعوا الكيس عن رأسي عرفت من خلال أسئلة الموجودين أننا نحن في مكان اسمه أبو غريب، هذا كان التحقيق البدائي.
بداية التفتيش: الانسان يفترض أن يعتقل في ضوء التحقيق البدائي، لكن نحن أخذوا لنا طبع الأصابع واللعاب والقرنية. يظهر أن نية الاعتقال كانت موجودة قبل بدء التحقيق. واستمر التحقيق معي حوالي ساعة ونصف وكنّا نجلس في مرافق صحية شرقية طافية، وكل شخص يستنطق يجلس في مرافق صحية طافية من القاذورات، ويُجبر على أن يجلس فيها وثمة في الباب محققان، وقفا على شكل سهم وخلفهما المترجم. أسئلة كثيرة، في نهايتها قالا لي: إن الأشخاص الذين سبق أن اعتقلناهم أبدوا استعدادهم للتعاون معنا، وانت دليل تعاونك معنا هو إعطاؤنا أسماء أشخاص تعتقد أنهم من الممكن أن يشكلوا خطراً علينا. فقلت ضمن منطقتي لا أعرف، قال نحن لا شرط لدينا، أعطينا أية أسماء ونحن نعتبرها بادرة وفاتحة تعاون معنا، وهذا حدث مع الكثيرين من الناس الذين أحضرناهم قبلك، وحتى لو كان هؤلاء الناس ممن تكرههم شخصياً أعطنا أسماءهم فقط ونحن سنجري عملية جراحية ليدك، ونعيدها مثلما كانت، وممكن أن نساعدك بأشياء كثيرة. أنا رفضت طبعاً. فقالا أنهما سيحولانني إلى غوانتانامو وإلى مكان الكلاب تأنف من العيش فيه.
بالفعل تم نقلنا وكنا حوالى 20 إلى 30 شخصاً في شاحنة، والأكياس في رأسنا ما عدا شخص واحد لم يكن الكيس في رأسه.
الدكتور شعبان: هذا الشخص عراقي أيضاً، وهل عرفتموه من هو؟
علي القيسي: سألنا من رأسه مكشوف، فليرى لنا أين نحن؟ فقال أنا رأسي مكشوف، فقلنا له: أخبرنا أين نحن، فقال لا أستطيع لأنني أعمى، وكانوا قد اعتقلوه بتهمة مقاومة الاحتلال من منطقة الدورة.
وبدأوا بتوزيعنا من الشاحنة قسماً قسماً، لأننا كنا نشعر بفراغ في الشاحنة من لحظة إلى أخرى إلى أن وصلنا الى مرحلة بقيت أنا ومعي اثنان نزلنا، ورفعوا الأكياس من رأسنا، فرأينا لافتة كبيرة موجودة أمامنا ومكتوب عليها بالعربية والإنكليزية، وأجبرونا على قراءة هذه التعليمات. وكانت تتضمن لا تقترب، لا ترفع وجهك في وجه الأمريكي، لا تقترب من السياج، وكان فيها تعليمات كثيرة، لا أتذكر أين كنا، وماذا رأينا في الأمكنة التي كنا فيها قبل أن نأتي إلى هنا. ونقلونا إلى موقع اسمه الفيجي لاند وهو يمتاز عن معسكرات الاعتقال الأخرى، بأن كل خمس خيم محاطة بسياج، والخمس وعشرون خيمة محاطة بسياج كونكريتي ارتفاعه حوالى 12 متراً. وكنا معزولين تماماً. وبقيت فيه فترة المعاناة كانت فيه طبعاً، نحن كنا في خيمة واحدة مجموعين بمعدل 45 إلى 50 شخصاً، حصة الشخص منا حوالي 30 إلى 35 سم مكاناً للنوم داخل الخيمة. وكان كل واحد منا لا يستطيع أن يقلب إلا على صاحبه، بالإضافة إلى النوم في الوسط. المرافق الصحية كانت ثلاثة ونحن حوالي 300 شخص. والمرافق الصحية فيها (تانك) خاص بداخلها وقد يمتلئ هذا (التانك)، فعملية الذهاب إلى المرافق كانت تتطلب ساعات كثيرة.
كانوا يسمحون لكل خيمة يومياً بستة جليكنات ماء (غالونات)، وبمعدل أربعين واحداً، تصل حصة الشخص منا إلى بطلين أو بطلين إلا ربع أو بطل ونصف (البُطل هو قنينة بين نصف الى لتر) نستخدمها للاغتسال والوضوء والشرب وكل الأمور الأخرى. ويحصون أرقامنا تباعاً، ولا يوجد هناك أسماء، حيث يتحول الإنسان عندما يدخل إلى هناك إلى رقم. وكان هناك مقر للتحقيق بجانب مقر الخيم، في الحقيقة بدأت ألتقي بناس هناك، التقيت بناس آتين من سجون أخرى، مثل سجن المزرعة في الفلوجة التي كانت حتى تلك اللحظة لم يطلق فيها طلقة واحدة ضد الأمريكان، وكانوا يعتبرون هذا أو منطقة سجن عين الأسد في قاعدة البغدادي أو المحطة الحرارية في المسيب أو في اللواء الثامن في الرمادي.
الدكتور شعبان: هذه كلها سجون أمريكية، وعدد السجون الأمريكية ستة وثلاثون سجناً.
علي القيسي: نعم، ستة وثلاثون سجناً. وبدأوا يروون قصصاً، حيث أصبح سجن أبو غريب نزهة بالنسبة لنا، فأحد من الفلوجة كانوا يحقنونه بأبر للهلوسة، يقول: مجرد ما أغمض عيني أرى تهيّآت فأبقى صاحي لمدة ثلاثة أو أربعة أيام. هناك شخص اطلعنا على آثار الكي بالنار في سجن البغدادي ولد اسمه عبد المجيد. سجناء المحطة الحرارية كانوا آتين أيضاً من منطقة المسيب، ومن ضمنهم ضابط شرطة مُكلف من قبل مديره بحماية تظاهرة سلمية، ولكن صورته ظهرت وزودوا الأمريكان بها فجاءوا به إلى المعتقل. وبدأت أسمع قصص غريبة عن سجون أخرى وحتى في الشمال الأخوان الأكراد كانوا معنا. استدعوني مرة واحدة وأيضاً طرحوا عليّ الأسئلة نفسها.
الدكتور شعبان: كم يوماً دام التحقيق؟
علي القيسي: بقيت حوالى عشرة أيام، ومن ثم استدعائي والتحقيق معي محققة "مجندة" حوالي ساعة ونصف الساعة كما أعتقد، وكانت المجندة تلبس ملابس خليعة جداً.
الدكتور الطيب البكوش: هل هي نفسها التي حوكمت في أمريكا؟
علي القيسي: لا، لم نصل بعد إلى ذلك.
الدكتور شعبان: تلك جاءت في مرحلة أخرى.
علي القيسي: الأسئلة نفسها والتهديد نفسه أيضاً سنقوم بإرسالك الى غوانتامو.
الدكتور شعبان: هل كان هناك تعذيب بالضرب.
علي القيسي: في البداية لا، ولكن كانوا يضعونا في ربط بحلقة إلى الأرض، ويحاولون إبقاءنا في وضع غير متوازن، وبعدها هددني وقال لي أنهم يريدون أن ينقلوني إلى المكان الذين قالوا لي عليه. وبعد فترة نادوا بالرقم الخاص بي 151716، وكان ذلك في شهر رمضان وطبعاً عانينا كثيراً في تلك الفترة، فعلى سبيل المثال سيارة الطعام الخاصة بالفطور كانت تأتي قبل الفطور بخمسة ساعات وتبقى واقفة لمدة خمسة ساعات بعد الفطور أمام أنظارنا ولا يوزعون لنا الفطور. والجامع كان قريباً من السجن وعندما يصيح المؤذن بالإمساك يوزعون علينا طعام السحور، وهذه من الوسائل التي كانوا يتبعونها.
الدكتور شعبان: هذا ما يسمى المساس بالمعتقدات، المساس بالعقائد وبالقيم الدينية والثقافية للناس الذين يجري انتهاك حقوقهم وتعذيبهم وبخاصة من جانب قوات الاحتلال.
علي القيسي: كان هناك شخص اسمه العارف الكعبي معتقل معنا من أهالي النجف، وكان هناك مشكلة في محافظة كربلاء، وتدخّل بصفته رجل دين لحل المشكلة، وبالفعل كان قد قطع شوطاً في حل المشكلة التي حصلت، ولكننا فوجئنا أنهم أثناء الليل داهموا المكان الذي كان موجوداً فيه واعتقلوه. كان عددنا في القاطع الذي كنا فيها كنا حوالى 200 إلى 300 معتقل، أغلبنا وهذا أخجل أن أقوله، من طائفة معينة، فكان الرجل الذي طلبنا منه أن يصلي بنا ويؤمنا صلاة جماعة، عنوان الترابط والمحبة التي كانت موجودة هناك. فتفاجأنا أن الأمريكان كانوا قد نصبوا كاميرا أثناء الصلاة ومجرد ما انتهت الصلاة أخذوا وأذاقوه مختلف أنواع العذاب، وقالوا له كيف تصلي فيهم وأنت شيعي وهم سنّة. فأعلنا الإضراب!!
الدكتور شعبان: يعني القسمة الطائفية الاثنية التي جاءت مع الأمريكان وتكرست بخاصة في مجلس الحكم الانتقالي عبر هذه المحاصصات امتدت إلى المفاصل الدنيا وإلى المواقع الدنيا من سجون ومعتقلات ومراكز شرطة وأمور أخرى.
علي القيسي: قمنا باقتلاع أوتاد الخيم، وطالبنا بإعادته، وبالفعل أعادوه إلينا بعد أربع ساعات ولكن آثار الضرب والتعذيب والإذلال بادية عليه، واستقبلناه وأصررنا على أن يؤمنا في الصلاة في كل وقت. وبعدها صاحوا باسمي قبل الفطور بخمس دقائق، قيدوني إلى الخلف وكيس في رأسي وزنجيل(سلسلة) في رجلي، ومشيت مسافة ودفعوني إلى سيارة دفع. ووصلت إلى مكان أنزلوني فيه، وكان هناك ممر طويل وسمعت أصوات أناس تستغيث ونباح كلاب، رفعوا الكيس من رأسي وفتحوا يدي ورجلي، وكنت ألبس دشداشة وقالوا انزع ملابسك، وكان هناك جنود أمريكان، وأتذكر أن شخصاً كانت صوره منشورة في وقتها اسمه ديفيد ونزعت الدشداشة وبقيت في الملابس الداخلية. ولكنهم قالوا لي :يجب أن تنزع كل ملابسك، وأنا رفضت، فنزعوا ملابسي بالقوة، وقيدوني أيضاً من رجلي ويدي، ومشوني مسافة حوالى عشرين متر والكيس في رأسي. ويبدو أنه كان هناك سلّم أي درج، فحاولت الصعود ولكنني لم أستطع، فأخذوا يضربوني بأخمس البنادق، وكانوا يرددون عبارة بالإنكليزية Let's Go، وفوقعت على بداية السلم، وتابعوا ضربي بالأحذية وبالبنادق فاضطررت الى الزحف في هذا الوضع على ركبتي وذقني على الدرج، وصادف أن الدرج فيه منعطف فاستمرت عملية صعود الدرجة ساعة ونصف الساعة أو ساعتين. ووصلت إلى مكان، وكان الكيس في رأسي، وكانوا في ذلك الوقت يرمون عليّ أوساخاً، حيث كنت أشتم رائحة الأوساخ والفضلات، هناك سمّاعة يصيحون فيها آذاني فيها بأذني "إعدام، إعدام"، ويسحبون أقسام بنادقهم ومسدساتهم ويضعونها في رأسي ويصيحون في السماعة تكراراً "إعدام، إعدام"، وكانوا ينطقونها بالعربي أحياناً. وكانوا يحضروا "الكلبشة" وهي لها صوت، وكانوا يضعونها على السماعة بجانب أُذٌنيَّ، وكانوا يكتبون بأقلام ماجيك على جسمي ولم أكن أعرف ما هي العبارات التي يكتبونها، ومن ثم ربطوا يديَّ إلى الأعلى في باب زنزانة، إلى أن جاءني أحد الأشخاص، وهناك الوقت معدوم لا نعرفه، وكان هناك جامع قريب وهو جامع الشيخ ضاري وهو قريب من سجن أبو غريب، ومن خلاله كان ممكن أن نحسب الوقت، حيث اقتادوني قبل الآذان بخمس دقائق، وكنا نحسب الوقت من خلال الآذان، وبقيت على هذه الوضعية تقريباً حتى صلاة الفجر، وجاء شخص ورفع الكيس من رأسي وقدم لي نفسه وكان يتكلم بلهجة لبنانية، وقال لي، وكان يستخدم حرف القاف في كلامه، وقال أقدم لك نفسي أنا محقق مشهور وحققت في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي صحراء النقب، وحتى كلمة غزة لفظها Gaza، وفي الجنوب اللبناني. وأنا معروف عندما أحقق مع شخص فإما يموت أو يفعل ما أريده، والأسئلة التي سبق أن سألناك إياها لن أعيدها عليك، لأنك أنت أكيد تتذكر تلك الأسئلة، وأنا معروف كمحقق. استغربت من هذا التقديم ومن ثم أعاد الكيس إلى رأسي، وفتح يديَّ وغير الوضع حيث أصبحت مربوطاً بيد إلى أعلى وأخرى إلى أسفل، ودائماً كانوا يكتبون على جسمي بأقلام الماجيك، ويرمونني بالماء البارد، وتعرفون أن الطقس في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003 وبداية شهر كانون الثاني (يناير)2004 كان بارداً جداً، ويومياً يسألونني الأسئلة نفسها، حول استعدادي لإعطائهم أسماء، ويقولون إذا كنت مستعداً للتعاون معهم، وأنني تحدثت الى الصحف، وقالوا لي: أنت تعرف الإنكليزية، لأنك اتصلت بصحيفة أجنبية وتكلمت معها، فكيف عرفت التواصل معها ؟ وكنت قد تواصلت مع الصحيفة الأجنبية أثناء حضوري فاتحة المرحوم محمد الراوي رحمه الله، وكانت هناك صحف أجنبية، والتقيت بصحيفة أجنبية وشرحت لها الوضع المتعلق بمخلفات الأسلحة الخاصة بالمطار.بقيت على هذه الوضعية حوالى ثلاثة أيام دون أكل نهائياً، وكانوا يحرصون دائماً على رميي بالماء والأصوات في أذنيَّ، ولقد وصلت إلى مرحلة من الانهاك والتعب صرنا فيها على استعداد حتى أن أنام وأنا واقف، لكن لم يكونوا يسمحوا حتى بذلك، ولم يكن مسموحاً لنا بقضاء حاجتنا. في اليوم الأخير جاءني (المحقق) وقال أنه سيعّد لي حفلة ((Music، وأنا لا أعرف ما يعني بذلك، وبعدها عرفت أن (Music) هي موسيقى، ومن ثم أدخلوني إلى أحد الزنزانات، ونمت على بطني وربطوني من يدي في الزنزانة، وفي تلك اللحظة تمنيت أن يكون الكيس موجوداً في رأسي، حيث جاءوا بسماعة ارتفاعها متر مربع مثل سماعة المسجّل، وشغلوا أغنية صوتها يُسمع على مسافة كيلومتر، أذكر منها Babillon Babillon، وهي أغنية تغنيها فرقة معروفة!!
الدكتور شعبان: هي أغنية مشهورة ومنعت في بعض البلدان.
علي القيسي: أنا لا أعرف الأغنية ولا حتى سمعت بها، ولكن قلت لك أنني تمنيت في تلك اللحظة أن يعيدوا الكيس إلى رأسي بالرغم من المعاناة التي أعانيها من وضع الكيس لأنه عادة يبقى خمسة أو ستة أيام في رأس السجين، عسى أن يخفف الصوت من رأسي، وبعد ساعتين أو ثلاثة على الرغم من أنني لا أشعر بالوقت لأنني لا أسمع صوت آذان أو غيره، فيبدو أنه توقف، ولم أكن أعرف أنه توقف لأنه حتى عندما توقف كنت أعتقد أنني ما زلت أسمعه، وجاء هذا الشخص وتكلم معي ولكنني لم أسمع، وأخذ صوراً لي وأنا في هذا الوضع، وبعدها دار ماء على رأسي، وكانت فرصة لأبل لساني من الماء الذي رماها علي، وتركني لفترة بعدها حيث بدأت أسمع وبدأ يسألني الأسئلة نفسها وعن رأيي في حفلة التي عرفت أنها حفلة الـ(Music). انتهى هذا اليوم الرابع وبدأنا ثاني يوم صباحاً باليوم الخامس، وأدخلوني صباحاً على زنزانة رقم 49، طبعاً عندما أدخلوني الى الزنزانة، الكاميرا كنا نراها في يد أي شخص، بيد الجندي أو المحقق، وحتى التلفون، في الحقيقة التلفون كان جديداً عندنا في العراق ولم أكن أعرف أنه في التلفون أصبح هناك كاميرا، وكانوا يقتربون بالتلفون منا وكنا نعتقد أنهم يسجلون أصواتنا واستغاثتنا، فبعدها عرفنا أنهم يصورون بـ "الموبايل". ورفعوا الكيس من رأسي وفتحوا يديَّ ورموني في الزنزانة، وبدأت بعد ساعة أستعيد تركيزي، وكانت الزنزانة عبارة عن متر ونصف المتر تقريباً، طولها وعرضها متر وضمنها مرافق صحية، فرأيت الزنزانات التي أمامي، وأبوابها مشبوكة ومفتوحة، وكنت أنا أشعر بحرج لأنني كنت عارياً تماماً، وكان هناك الشيخ أبو جبريل إمام جامع محمد الأمين في المحمودية الذي قال لي أن أطمئن لأنه صار له ثلاثة أشهر عارٍ تماماً وحتى عندما يحاول أن يجمع ورقاً من الورق الخاص بالأكل الذي يأتي به الأمريكي، يمنعوننا. فسألته هل الوقت الآن نهار أو ليل، فقال لي: أن الوقت نهار، وقال لي: حاول أن تفطر، والأكل الذي كانوا يوزعونه لنا بعد خمس أو عشر دقائق يفتشون عليه، ولكن الأخ الذي كان مقابلاً لي كان يخبئ كيساً فيه جبن في مكان المرافق الصحية يعني بداخلها، فأخرجه وأعطاني إياها، وقال لي مرة أن أعيد الكيس الفارغ لأنه لا أعرف كيف أتعامل معه، وهذا عندما يجدوه يعتبرونه جريمة أو تهمة. وفي الحقيقة شربت أنا ماء بكثرة، وصار عندي ألم في معدتي لأنني لم آكل منذ خمسة أيام، وأنا أعاني حتى الآن من ذلك. حتى نوعية الجبن التي كانوا يأتون به كان فيه فلفل حار. فبدأت أسألهم، وبدأوا يقرأون لي الكتابات، وقالوا كل واحد هناك يسمونه باسم، والغريب أنهم كانوا يسمونني كولن باول وكان ذلك مكتوباً على جسمي وعلى وجهي، وعلى يديَّ هنا التي التهبت نتيجة الماء والدوس عليها، كانوا كاتبين عليها اليد المتعفنة، يعني عبارات بالإنكليزية كانوا يقرأونها لي.فقالوا لي أن هذه يسمونها حفلة الاستقبال، وكل شخص يأتي يعملون له حفلة استقبال، وكل واحد من الممكن أن تبقى هذه الحفلة لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة أو أكثر، وأنت استمرت معك خمسة أيام، وقالوا لي أنني ما زلت في طور التحقيق وطلبوا أن استعد للأسوأ، واستدعوني مرة أو مرتين للتحقيق والأسئلة كانت مثلاً تدوم لمدة عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، وأحياناً السؤال يعاد عشرة مرات. وقالوا لي لا تستغرب إذ من الممكن أن تكون الأسئلة غريبة، حيث كان هناك شخص تاجر والمحقق كان يحقق معه عن عملية التجارة في العراق، البيع والشراء وما يخسر وما يربح، والمزارع، كان لدينا دكتور جيولوجي كانوا يحققون معه عن أماكن ومواقع المياه الجوفية والمعادن وإلخ، وقالوا لا تستغرب من أي شيء يسألونك فيه.
الدكتور شعبان: ما هي مهنتك في الأساس أخ علي؟
علي القيسي: أنا في الأساس مدرس شريعة متقاعد. طبعاً التحقيق في أول جلسة تشعر منه أن القصد من الاعتقال ليس التحقيق أو المعلومات، ولكن القصد هو اعتقال أكبر عدد من الناس ووضعهم في هذا الوضع، هذا الشعور الذي ساد لدينا كسجناء، المهم كان هو الاعتقال والمهم أن يتعرض لذلك أكبر عدد من الناس. بعد خمسة عشر يوم بدأت، طبعاً العمل لم يكن عملاً فردياً، بل كان عملاً منظماً. كان في القاطع مائة زنزانة، وكل طابق فيه خمسون، وعرفت الخريطة فيما بعد عندما دخلت، أنت تدخل 25 على اليمين و25 على اليسار في الطابق الأرضي، وفي الطابق الأعلى الأمر نفسه. وفي المقابل كان قاطع النساء، وكان بيني وبينهم أبو زيد وهو مهندس زراعي كتبوا على جسده (Big Chicken) والغرفة التي حققوا فيها مع النساء هي مقابلنا، وكانت المعاملة نفسها للنساء وكنا نسمع استغاثاتهن. ونحن كنا في زنزانات وعراة فماذا نستطيع أن نفعل سوى أن نردد الله وأكبر، هذا ما كنا نستطيع فعله.
وكان مثلاً يجبر رجل على أن يذهب بالطعام الى النساء وهو عارٍ تماماً، وكنا نسمع استغاثاتهن، وبدأت الزنزانات تزدحم، فهم يريدون أن يضعوا أكثر من شخص في الزنزانة، لأن طريقة عملهم هي أن يأتوا بالشخص الى الخيم، يأخذون ما يأخذونه منه بالتحقيق وما لا يأخذونه فلا بأس بذلك، ومن ثم يحولونه إلى هذه الزنزانات التي كانت مظلمة ولا يعرف فيها الليل من النهار، وكانوا يشغلوا في بعض الأوقات موسيقى عالية وكنا لا نعرف الأوقات ولا نسمع الآذان في الخارج، وكان يأتي أيام علينا طويلة يضيع علينا اليوم وما هو وما هي الساعة. بدأوا يسرعون في عملية التحقيق وبعد 15 يوم أعطوني (One Blanket) بطانية واحدة، وقسم من الأخوان هنأوني لأنه أصبح لدي بطانية. فالبطانية كانت أمراً مهماً.
الدكتور شعبان: هل أنت معتقل سابقاً؟
علي القيسي: نعم في زمن صدام سبق أن اعتقلت؟
الدكتور شعبان: فما هو الفرق بين التعذيب هناك والتعذيب هنا؟
علي القيسي: ذلك التعذيب كان أعمى، ولكن هذا التعذيب فني. سأضرب لك مثلاً الشيخ حامد أبو دعاء، هذا الرجل مارسوا معه كل صنوف التعذيب ولكن بالكلام فقط ولعله كان أقرب الى السيف ففي اليوم الثاني لاعتقاله ومن خلال الاستمارة التي ملأها له ابنه الصغير اسمه براء، استدعاه محقق في الساعة الثانية ليلاً وقال له نحن آسفون داهمنا بالأمس منزلك وكنا نبحث عن وثائق، وأثناء استدارة الدبابة سحقت ابنك بالأرض. وأرجعوه الى الزنزانة، وطبعاً هذا اليوم الثاني بدأ يأخذ حبوب تحت اللسان والى يومنا هذا يعاني من مرض القب الذي أصابه!!
الدكتور شعبان: هناك فرق بين ما يجري في السجون الأمريكية وما يجري في السجون الرسمية العراقية حالياً، فنحن سمعنا قبل يومين الدكتور أياد علاوي رئيس الوزراء العراقي الأسبق يعترف صراحةً وعلناً بأن الوضع لا يختلف إن لم يزيد عما كان يجري في ظل النظام السابق من انتهاك لحقوق الإنسان ومن تعذيب. وقبلها كان الدكتور ليث كبه الناطق الأسبق باسم الحكومة اعترف بوجود تعذيب في مراكز الاعتقال العراقية. هل تستطيع أن تصف الحالة بين ما كان يجري في السجون العراقية أو التابعة للحكومة العراقية وبين ما يجري في السجون الأمريكية!؟
الدكتور الطيب البكوش: هذا الكلام الذي قاله علاوي، هل عشته أنت بين تجربتك السابقة من الاعتقال زمن صدام وما عشته بعد، هل ينطبق عليه هذا الكلام أم هو كلام فقط للاستهلاك السياسي؟
علي القيسي: في الحقيقة ينطبق عليه هذا الكلام إلى حد بعيد، لأنني أنا اعتقلت في وقتها في القصر الجمهوري في جهاز الأمن الخاص وهو أشد أماكن الاعتقال في زمن ذلك النظام. هناك نقطة يجب أن نوضحها للناس، وجود انتهاكات وتعذيب في ظل النظام السابق ولكن سجون النظام السابق لا تبرر وجود التعذيب الآن، وللأسف عندما نتحدث إلى الكثير من الناس يقولون أنه في ظل النظام السابق أيضاً كانت هناك مثل هذه الانتهاكات.( هناك من يريد أن يغلق أذنه وعينه عما يجر الآن!!).
الدكتور شعبان: سؤالي هو الفرق بين ما يجري في السجون الحكومية الآن التابعة للحكومة العراقية حالياً وبين ما يجري في السجون الأمريكية، وما انكشف في معتقل الجادرية من سجن سري تابع لوزارة الداخلية واضطرار وزارة الداخلية للاعتراف بذلك والصور التي شاهدناها على التلفاز من تعذيب ومن إساءة للكرامة الإنسانية كلها تعكس على أن هناك سجون بدأت تفوح رائحتها حتى أن الأمريكان تدخلوا للكشف عن هذا السجن السري.
علي القيسي: لقد أسسنا حالياً جمعية ينتمي اليها سجناء كانوا لدى الامريكان أو لدى الحكومة العراقية. ورغم قسوة السجون في السابق الاّ أن هناك بعض الضوابط الموجودة، لذلك فإن الفصل الجماعي أوجد نوعاً من الفراغ تم تعويضه بضباط ومراتب محسوبة على الاتجاهات الطائفية ورغم انه تم اعادة بعض ضباط الشرطة ممن لم يثبت تورطهم في أي جرائم في زمن النظام السابق، وهؤلاء الضباط أولاً تعرف جنابك أن الضابط العراقي من ضمن الدورة الخاصة به، هناك ثلاث سنوات دراسة، يدرس تشريع طب عدلي والقانون وحتى لديه كورس في الشريعة وحقوق الإنسان، وبمجرد أن تسلمت هذه الحكومة زمام الحكم أعلنت قوائم بأسمائهم واعتبرت هؤلاء الضباط من أزلام النظام السابق وطردتهم، ولذلك تجد ضابطاً الآن في الشرطة العراقية برتبة رائد لا يجيد القراءة والكتابة.
بالنسبة لمسألة السجون، لدينا الآن أسماء وخرائط وسجناء، هناك سجون ترتكب فيها فظائع.
الدكتور شعبان: المسألة دخلت على ميدان صراع سياسي وتصفية حسابات سياسية، يعني الحكومة الحالية اتهمت حكومة علاوي بالفساد والرشوة وتبديد المليارات، والحكومة السابقة تتهم الحكومة الحالية بممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان، قد يكون الاثنان صحيحان، وقد يكون هناك محاولة تصفية حسابات سياسية، لذلك أنا أريد أن أعرف الحالة التفصيلية، ما يجري في السجون الرسمية العراقية ما بعد الاحتلال إلى الآن وما يجري في السجون الأمريكية، فأيهما أكثر قسوة؟
الدكتور الطيب البكوش: لو سمحت، أنت قلت قبل بدأ التسجيل أن هناك من يدفع عشرة آلاف دولار أمريكي لكي لا ينتقل من السجون الأمريكية إلى السجون العراقية، فهل هذا الأمر يصح الآن بعد أن انكشفت فضائح السجون الأمريكية وأصبحت الإدارة الأمريكية والجيش الأمريكي يقلل من هذه الفظاعات، لأن ما ذكرته أنت في السجون الأمريكية هو فظيع للغاية، فلا يمكن أن نتصور أفظع منه. فهل المقارنة الآن لأن الأمريكان أصبحوا هم أقل فظاعة؟
علي القيسي: في الحقيقة الفظاعة هي نفسها مستمرة، ولكن ما يحدث في السجون حالياً وأنا أختلف مع أستاذي الدكتور شعبان حول " السجون الرسمية"، فلا يوجد الآن سجون رسمية، ونحن التقينا مع اشخاص كانوا معتقلين تحت فندق بابل، ويسمعون أصوات الأعراس.
الدكتور شعبان: أوضح لنا هذا الأمر.
علي القيسي: هناك سراديب في فندق بابل هي سجون ومعتقل، وهناك دور تابعة لمسؤولين حكوميين في النظام السابق تستخدم كسجون، هناك مزارع تستخدم كسجون.
الدكتور شعبان: أنا أقصد من جهات غير رسمية، أو بصفة شبه رسمية، أو ترتدي ملابس رسمية، ميليشيات أو جماعات مسلحة.
علي القيسي: الخلل الذي حدث عندنا الآن، هو عملية دخول الميليشيات إلى الأجهزة التنفيذية وهو الذي أربك الوضع، وإلاّ مثلاً تمت مداهمة جامع الإمام أبو حنيفة وقتل أربعة مصلين وإصابة أكثر من 17 شخصاً، وفي اليوم التالي صرحت وزارة الداخلية أنه لا يوجد علم لديها بذلك، فإذن هؤلاء كانوا 300 شرطي وعسكري مدعومين بدبابات وطائرات أمريكية فمن أين أتوا؟ هذا الذي يحدث، دمج الأحزاب، ودمج ميليشيات الأحزاب داخل الأجهزة التنفيذية في العراق هو الذي أربك العمل. والآن نلتقي بأناس يلاقون في السجون العراقية ما لا يلاقيه شخص لا في سجون الأمريكان ولا في السجون النازية ولا السجون الروسية إطلاقاً، بل أنه بلغ ثمن المكالمة من داخل السجن العراقي إلى أهل السجين 1200 دولار أمريكي.
الدكتور شعبان: قلت كما قال الدكتور البكوش أن هناك من دفع 10 آلاف دولار كي لا ينتقل إلى السجن العراقي من السجن الأمريكي. هل هذا صحيح وهل تؤكده باعتبارك سجيناً؟
علي القيسي: نعم. هذا لا يعني أن السجون الأمريكية هي رحيمة أو بعيدة عن الذي يحدث للسجناء من أذى.
الدكتور الطيب البكوش: هل هناك من يتوهم أن السجون الأمريكية هي أقل فظاعة، هل عنده علم أم يتوهم ذلك؟
علي القيسي: السجن الأمريكي يستخدم في عملية التعذيب النفسي وعملية الضرب وعملية التجويع وعملية الحرمان من النوم وعملية إطلاق الكلاب، لكن لا يستخدم المثقب الكهربائي، أو قطع الأطراف أو سلخ الجلود، أو الحقن. لدي صور على سي دي لشخص عمره 75 سنة من الأخوة الفلسطينيين في العراق يدعى أبو رياض وتم اعتقاله وتم سكب حامض الكبريتيك في أنفه وهذا الأمر موثق بصورة.
الدكتور شعبان: جرى الحديث عن الاعتداءات الجنسية في السجون الأمريكية، فهل ممكن أن تعطينا بعض التفاصيل وخصوصاً الصور الجماعية التي شاهدناها في سجن أبو غريب!؟
علي القيسي: في الحقيقة هذا هو ممر يستخدم للتحقيق، وهؤلاء الناس الذين ظهرت صورهم هم حراس السجن، أما المجرمون الحقيقيون فهم الذين يمثلون منتسبي الشركات من المحققين الذين ينتسبون إلى شركة(Titanic Robe) وشركة تايسي، هؤلاء هم المحققون والذين يتم تنفيذ أوامرهم، وهذه الشركات متعاقدة مع مرتزقة من كل العالم، تجد الأوسترالي والجنوب أفريقي والأمريكي.
الدكتور شعبان: هل كان هناك محاولات من جانب الضحايا لتقديم لائحة إتهام وتقديم دعاوى ضد هاتين الشركتين، وهل هناك وثائق تؤكد أن هاتين الشركتين كانتا وراء عملية التعذيب المنظم التي حصلت في السجون الأمريكية!؟
علي القيسي: في ما يخص الصورة، حتى هذه البطانية أعطيتها لأحد المحامين الأمريكان الذين أفهمونا أن الدعوة ضد الشركات هي أسهل من الدعوى ضد وزارة الدفاع الأمريكية وضد الحكومة الأمريكية، وهم يستخدمون في هذا الأمر قانوناً صدر في الثلاثينات ضد شركات الـ كابوني التي اعتبرت أرباحها غير شرعية، ولكن الغريب أن هذه الشركات بعد فضيحة سجن أبو غريب بشهر جرى تجديد العقد لها، وهذا دليل على أنه مَرْضيٌّ عن عملهم وفعلهم.
الدكتور شعبان: أنا أعتقد، وهذا للمشاهدين والقراء على حد سواء، الذين شاهدوا او لم يشاهدوا هذا الشريط، الذي فيه مأساة حقيقية وليست مأساة فردية وشخصية وإنما مأساة عامة ومأساة احتلال وما تبع هذا الاحتلال من معاناة، أنه لا بدّ لمنظمات وجماعات حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية ملاحقة ومساءلة المسؤولين عن هذه الأعمال والارتكابات الخطيرة خصوصاً الشركات، وبالتالي مساءلة الجهات المسؤولة مباشرة سواء كانت جهات دولية أو جهات داخلية ومحلية.
علي القيسي: بالنسبة الى تلك الشركات فهي تأخذ المقاولة في السجون وفق زيادة عدد السجناء وإطالة محبوسيتهم، يعني أن السجين مخصص له يومياً، من خلال كتاب رسمي زودنا فيه المحامون الأمريكان، 25 دولاراً أمريكياً في اليوم بينما السجين العراقي لدى الأمريكان يصرف عليه يومياً أقل من ربع دولار، وكلما زاد عدد السجناء كلما زادت أرباحهم.
الدكتور شعبان: هذه مسألة مهمة، وفيها معلومة قيمة.
الدكتور الطيب البكوش: المطلوب عملية توثيق شاملة، أعتقد أن هذا عمل جماعي يجب أن تقوم به منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المحامين في العراق وفي الوطن العربي والمنظمات الدولية، وأعتقد أن الآن يجب أن يكون هناك عمل لا بد من القيام به لتوثيق كل ذلك وإعداد ملف لمحاكمات دولية لهذه الجرائم ضد الإنسانية. هذا العمل أساسي، لأن ما نسمعه هو فظاعات، وهذه الفظائع إذا لم نقم بهذا العمل بصفة جدية في أقرب وقت فإن الأنظمة الدكتاتورية وغيرها ستواصل استخدام وسائل انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاك الاتفاقيات الدولية ضد التعذيب، باعتبار أن الديمقراطيات الكبرى مثل أمريكا تمارس هذه الأشياء فتصبح أشياء عادية، رغم أن هذه الدول جميعها وقّعت وصادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب، فإذا لم يقع تشكيل وتقديم قضايا عدلية على مستوى دولي فالأمور ستبقى سيئة جداً.
الدكتور شعبان: أعطني شيئاً عن الصور تحديداً التي انتشرت.
علي القيسي: أحياناً كان عندما يأتي صديقة لهؤلاء الحرس أو المحققين، ويريد أن يأخذ صورة للذكرى، فكان يطلّع أحد السجناء، ويضعه في وضع غير طبيعي ويأخذ صورة معه للذكرى. وبعد 15 يوم سلموني بطانية وبدأوا يسرعون في عملية التحقيق، حتى أن الزنزانة بدأ يصير فيها أكثر من شخص. وكان أول شخص أخذوه أمامي شاباً اسمه شاهين من الموصل وسمعت استغاثة غير طبيعية منه، ونحن كنا قد سمعنا عن الكهرباء في السجن، وبعدما أرجعوه، جاء دوري. وأدخلوني إلى الغرفة، وكان هناك مجموعة واقفة ورفعوا الكيس من رأسي وتحدث إليّ يهودي مغربي كنا نسمّيه أبو حامد، ولكن هو يلبس ملابس الجيش الأمريكي العسكرية، وقال أننا سنصعقك بالكهرباء وهذه آخر فرصة لك فإما أن تتكلم وإما تموت بالكهرباء، وجعل وجهي على الحائط وجعلني أرى شريط كهرباء أحمر وآخر أسود، وقال بسرعة لا يوجد لدينا وقت هذه آخر فرصة لك وسنصعقك بالكهرباء ولأكثر من مرة.
الدكتور شعبان: أين هي الأماكن التي تم استخدم الكهرباء فيها.
علي القيسي: كنت لا زلت أقف على الحائط، وقال هذا هو الكرتون، هذا الكرتون يسمونه الأمريكي فود، وكانوا يستخدمونه حتى في العقوبات، وكانوا يعاقبوننا بحمله لمدة يوم كامل لأن وزنه أكثر من 25 كيلو، وقال لي ستصعد عليه وسنصعقك بالكهرباء فإذا اعترفت اعترفت أما إذا لم تعترف فعندما تقع عن الكرتون نعيد الكرة، وكان يتكلم العربية باللهجة المغربية. وأنا رفضت، وتركوا الكيس في رأسي وهم تجمعوا وكان هناك ضحك وغيره، وشعرت أنهم يمثلون أكثر من أي شيء آخر، فشعرت كإنما عيوني انقلعت من مكانها، ومثل الجرح حدث في عيوني نتيجة الكهرباء.
الدكتور شعبان: أين كان مكان الكهرباء.
علي القيسي: في اليد، وكنت أفتح يدي.
الدكتور الطيب البكوش: هل ترك التعذيب آثار، بغض النظر عن الآثار النفسية التي هي شيء آخر، أقصد آثار جسدية.
علي القيسي: أنا كان عندي تداخل جراحي وكان ممكن أن تشفى يدي لكن عادة، الشخص الذي لديه جرح أو عوق يستخدمونه في التحقيق وكانوا دائماً يدوسون عليها بالبسطال، وأتذكر مرة نزع " البانديج" منها فانتزعت طبقة من اللحم منها، وأتذكر واحدة، جاءوا بي ثلاث مرات إلى هذه الغرفة وخمس مرات صُعقت في الكهرباء، ومرة من المرات عضيت لساني وبدأ يطلع دم من حلقي من داخل الكيس. وجاءوا بدكتور مزق الكيس من رأسي وبالحذاء فتح حلقي وأدار فيه ماء ورأى الجرح في لساني، وقال (Continue).
في الحقيقة كنا أنا والأخوة المعتقلون مرات نختلق حالات ونتظاهر بأننا نعاني ألماً ما مثلاً، وكانوا يأتون بالأطباء ليفحصونا ويقولون استمروا، وللأمانة كان بعض الأطباء يشاركون في عمليات التعذيب والتحقيق.
الدكتور شعبان: وهذا فيه تجاوز أيضاً لشرف المهنة وعلى التوقيع على أن لا يستخدم العلوم الطبية ضد الإنسان لأي سبب كان.
علي القيسي: وهناك دكتور يأتي وهذا وفلان رقمه كذا ما زال قيد التحقيق فكان يمنع من العلاج. وأنا كنت أعتمد على شاب اسمه أبو حذيفة كان يخرج لنقل الزبالة وكان يجمع لي من حاوية الأزبال الحبوب ويعطينا إياها، وأمامي كان الدكتور إبراهيم علي أكبر أستاذ الفيزياء النووي في جامعة التكنولوجيا، وكان يقول لي أي حبوب تأتي إليك ابتلعها، وكان يسمعهم يتحادثون بينهم بالإنكليزية ويسألون لماذا صار في يديه غرغرينه، وكان يطلب مني أن أبلع أية حبوب تصل إليّ. وهذا الرجل كان مثل المرشد الطبي لنا وهو دكتور في الفيزياء النووي.
ومن المشاهدات التي رأيتها، وهذه كلمة أتمنى أن تفهموها ولا تأخذوها بغير معنى، إن المحرض الأساسي على الإرهاب والعنف في العراق هي المعتقلات. إن عمليات الدهم والاعتقال والانتهاك التي تحدث في العراق هي التي ينتج منها الإرهاب، وأضرب لك مثلاً وهو ناتج من معرفة، هناك شيخ وإمام وخطيب جامع يعدّ على الإسلام المعتدل، إنْ تحب أذكر لك اسمه بيننا فلا مشكلة، وعمره 75 سنة وضمن منطقته وهي التي كانت الفلوجة ولم تطلق فيها طلقة واحدة وكان الأمريكان يتجولون فيها براحتهم.
الدكتور شعبان: أول مرة أطلق صاروخ في الفلوجة، فأصاب 48 واحداً من القتلى وعشرات من الجرحى، والخلاف كان على تعيين قائمقام ومن ثم بدأ الفعل ورد الفعل، وتعاظمت المقاومة وتحدي الاحتلال.
الدكتور شعبان: نواصل حديثنا رغم المرارة ورغم الاكتئاب الذي أصابنا، لكن في نفس الوقت الإصرار على أن التعذيب ظاهرة مشينة لا بد من إدانتها ولا بد من بذل جميع الجهود لوقفها ولمنعها وبالتالي للتخلص منها كلياً. الكلمة الآن للدكتور البكوش مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس بخصوص ظاهرة التعذيب.
الدكتور الطيب البكوش: كيف تفسّر في ظل عمليات المقاومة الموجودة أنها تستهدف المدنيين في الأسواق أكثر مما تستهدف الجيش الأمريكي
الدكتور الطيب البكوش: ظاهرة التعذيب هي ظاهرة منتشرة، هذا يجب الاعتراف به، منتشرة في جميع أنحاء العالم بدرجات مختلفة في البلدان الديكتاتورية بصفة عامة التي فيها أنظمة ديكتاتورية متخلفة، التعذيب منتشر أكثر، لكن هو فيما يسمى بالديمقراطيات أقل من دون ريب، لكن ما بيّنته التجربة الموجودة الآن في العراق هو أن بعض ما يسمى بالديمقراطيات تشجع على التعذيب لأنه موجه ضد أناس تعتبرهم أقل درجة من الناحية الإنسانية من مواطنيها، هم مواطنون تعاملهم كمواطنين من درجة أخرى سفلى، وهذا ما يمثل تناقضاً غريباً. يعني قد لا نجد نفس درجات التعذيب في السجون الأمريكية بالنسبة إلى مواطنين أمريكيين ولكن الآن لكي تُفلت الإدارة الأمريكية من المتابعة ومن الانكشاف أمام وسائل إعلامها فهي الآن تقيم في أنحاء كثيرة من العالم سجوناً سرية وبعض هذه السجون موجود في البلاد العربية، وبعضها حتى في بلدان من أوروبا الشرقية، والآن يوجد تحقيق في أمريكا وتوجد محاسبة للإدارة الأمريكية على هذا. عشرات من السجون وطائرات خاصة تنقل سجناء من أفغانستان ومن العراق إلى هذه السجون السرية التي تُشرف عليها السي آي إي، والآن هذه فضيحة جديدة من الفضائح تضاف إلى غوانتانامو وتضاف إلى أبو غريب، يوجد دائماً تحايل، خرجت فضيحة أبو غريب ثم غوانتانامو والآن هناك تحايل أن السي آي إي تقيم لها سجون ومعتقلات سرية خارج الأراضي الأمريكية في بلدان أخرى عليها تعتيم إعلامي كبير حتى لا يمكن محاسبتها قضائياً في بلادها. هذا التناقض الغريب وهذه الفضيحة الكبرى التي يجب فضحها وكشفها في مجال حقوق الإنسان. إذن هو الإفلات من القوانين ومن المراقبة الموجودة في البلد بإحداث سجون ومعتقلات لا تدخل تحت طائلة القانون الأمريكي وتبقى إذن خارج تتبع القانون، ولكن يجب أن تدخل الآن تحت طائلة القانون الدولي هذا هو المهم، وهذه جرائم ضد الإنسانية وهي لا تسقط بالتقادم. وهذه مسؤوليتنا نحن كحركة حقوق الإنسان العربية بالتعاون مع حركة حقوق الإنسان الدولية لا بد من القيام إذن بالتوثيق الشامل لهذا.
الدكتور شعبان: هذه دعوة لكل جماعات حقوق الإنسان ولحركة حقوق الإنسان العربية للاهتمام بقضية التعذيب، وبخاصة دعوة الدول العربية للمصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب التي جرى التوقيع عليها عام 1984، ووضع هذه الاتفاقية موضع التطبيق. وكاقتراح أيضاً يمكن المعهد العربي مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب واتحاد الحقوقيين العرب أن ينظموا ورشة عمل متخصصة حول موضوع التعذيب وسبل مجابهة التعذيب والآليات الدولية لملاحقة منتهكي حقوق الإنسان والجهات التي تصدر أوامر التعذيب سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي. هناك حالات أيضاً يمكن متابعتها كحالات للدراسة خصوصاً سجن أبو غريب وغوانتاناموا وموضوع السجون السرية وما يجري، وهذه ثلاث ظواهر دولية إقليمية يمكن متابعتها ويمكن تنظيم ورشة عمل متخصصة على هذا الصعيد.
ويحضرني قول أثير لبشير الحاج علي أحد المناضلين الجزائريين الذي كان يتعرض للتعذيب، وكان يغطس في مغطس ثم يرفع رأسه ويغطس مرة ثانية ومن ثم يرفع رأسه مرة أخرى، وكان أحد الشباب قد أنزل للتعذيب في أحد السراديب السرية وعندما انتهت جلسة من جلسات التعذيب بين فترة وأخرى كان الشاب يردد "سنعلمهم درساً لن ينسوه، سنمارس التعذيب ضدهم مثلما مارسوه ضدنا وبالأساليب نفسها". فما كان من بشير الحاج علي إلا أن قال له "علينا أن نكنس التعذيب كظاهرة أي أن ننهي التعذيب كظاهرة، يجب أن لا نتصرف خارج نطاق الإنسانية، نحن بشر وهم بشر وعلينا أن نعمل لإنهاء هذه الظاهرة وإلغائها تماماً". هذا ما لمسته مع الحاج علي القيسي، لم ألاحظ لديه كيدية ولم ألاحظ لديه أية رغبة في الانتقام أو الثأر، حيث تعامل بمنتهى التسامح ولكن دون نسيان الذين لا بد أن يتحملوا مسؤولية هذا العمل الشائن وهذه الارتكابات التي تمس جوهر الإنسانية. السيدة جمانة لديها سؤال ومداخلة حول الموضوع.
جمانة: جرى الكلام عن الكثير من قضايا التعذيب التي حصلت في العراق، هناك جزء معتم في هذا المجال وهو التعذيب الذي تعرضت له النساء العراقيات، وكان الوضع مماثلاً للرجال، فهن تعرضن للتعذيب في السجون العراقية والأمريكية ومن ثم خرجن للعذاب الأكبر الذي كان ينتظرهن خارج السجن، عدد كبير من النساء الذين اغتصبن في سجن أبو غريب تم قتلهن فور خروجهن من السجن، وعدد كبير منهن كنّ يطلبن قتلهن لأنهن لم يستطعن أن يتحملن العقوبة الاجتماعية والنظرة الدونية لهم كنساء مغتصبات في المجتمع. وأيضاً أعتقد أن موضوع النساء من المسائل المهمة لتسليط الضوء عليها لأن النساء تعرضن لتعذيب ونتائجه كانت أقسى عليهن بشكل أكبر بكثير من الرجال. كان الرجل يخرج من السجن ويشعر بفخر لأنه عُذِّب من قبل الأمريكان بينما المرأة كانت تنتهي حياتها اجتماعياً فور خروجها من المعتقل. من المهم كثيراً أن تقوم جمعيتكم بالعمل على مواضيع النساء.
علي القيسي: لدينا قسم خاص لقضية حقوق النساء، ومع تزايد عدد النساء المعتقلات لجأنا نحن إلى المراجع الدينية، لكن الدكتور شعبان يعرف أننا نحن في العراق حساسون جداً من الحديث في هذا الموضوع، وهذا طبعاً حرمنا من أشياء كثيرة بالنسبة للفظائع التي ترتكب بحق النساء. وسعينا مع كثير من المعتقلات العراقيات وقد تم تزويجهن على سنة الله ورسوله وبدأنا نلغي هذه النظرة الدونية للمرأة، وبدأنا فعلاً بها، لكن الأمر يحتاج الى وقت ومعالجات طويلة الامد.الدكتور شعبان: هذا الأمر يحتاج إلى تكافل اجتماعي إلى وضع وبيئة طبيعية وصحية وإلى خروج الاحتلال وإنهائه، إلى تسوية مثل هذه الأمور والمتعلقات بروح مستقبلية وبروح تفائلية وبروح الضمان والتضامن الاجتماعي، بهذا المعنى.علي القيسي: نحن في الحقيقة، مع تزايد عدد المعتقلات من النساء، وهذا لأول مرة أقوله، لدينا إحصائية، هناك حوالي ألف وخمسين امرأة تم اعتقالهن في العراق. وهناك نظرة للشرع، من جانب شرعي ومن جانب عقلي ونحن نحاول أن نزاوج بين هاتين النظرتين، وبدأنا نُشعر الناس بأن المرأة التي تعتقل يجب أن تكون محط إكبار واعتزاز وافتخار كأخيها الرجل إنشاء الله، وتغيير العقلية. ويوجد هناك نظرة شرعية، المرأة مجرد ما تكون في خلوة في سجن يتم التشكيك بها، ولكن الحمد الله بدأت هذه النظرة تتغير، والله في السجن كنا نسمع أصوات نساء وكلام نساء يشد العزيمة، خصوصاً بالنسبة لنا كمعتقلين، وإنشاء الله نحن في طريقنا لتغيير هذه النظرة نهائياً، وبدأنا فيها، وحدثت في محافظة ديالى من أخواتنا المعتقلات اللواتي لم يتزوجن وتم تزويجهن من أناس يعدّون من عليّة القوم تشريفاً وتكريماً لهن.
جمانة: أريد أن أطلب " بروشور" جمعيتكم، بما فيها العنوان الكامل، لنرى إمكانية المعهد للتعاون والتدريب والمساهمة.الدكتور الطيب بكوش: سأتصل بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحاميين العرب.الدكتور شعبان: أنا سأتصل أيضاً باسم اتحاد الحقوقيين، وأنا عضو المكتب الدائم، ويمكن أن أقول من الآن أننا موافقون وسندعم هذا التوجه وحاضرون له كذلك في الشبكة العراقية والمنظمة العربية. هل لديك كلمة أخيرة تريد أن تقولها؟علي القيسي: أريد أن أوجه رسالة للشعبين الأمريكي والأوروبي وشعوب العالم كله، وبخاصة الشعب الأمريكي، فنحن في الحقيقة بدأنا في الآونة الأخيرة اتصالات مع منظمات مجتمع مدني أمريكي وبدأوا بالتجاوب معنا، وهناك من المنظمات من عيّن مترجماً خاصاً لوثائقنا وبياناتنا. في الحقيقة الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية (Amnesty) وهيومان رايتس ووتش وغيرها نحن على تنسيق دائم معهما. ما يحدث في السجون العراقية وفي العراق هو ليس جريمة بحق الشعب العراقي وحده بل جريمة بحق هذه الدول، هو جريمة بحق الإنسانية ولا يعتقدون أن حالة العراق سوف تنحصر في العراق، عملية تفريخ الإرهاب والعنف سببها الاعتقال، وبمناسبة عقد مؤتمر الأمم المتحدة الأخير صدر بيان بوجوب معاقبة من يحرض على الإرهاب. من يحرض على الإرهاب هو من ينتهك حقوق الإنسان وينتهك إنسانيته، وهؤلاء هم المحرضون الأساسيون عليه.الدكتور شعبان: بالمناسبة حتى القوانين الدولية بما فيها قانون مناهضة الإرهاب البريطاني على سبيل المثال، قرر هذا القانون، بغض النظر عن الملاحظات عليه، متابعة جميع الذين يخططون لتنفيذ عمليات إرهابية، وبموجبه يمكن ملاحقة الرئيس بوش واتصالاته برئيس الوزراء البريطاني بوثيقة سرية بشأن قصف مقر تلفزيون الجزيرة ومقار الجزيرة في بلدان مختلفة، هذا ليس فقط تحريض على الإرهاب ولكن هذا شروع بعمل إرهابي، بما يتابعه القانون الدولي والقوانين الداخلية في عدد من البلدان بما فيها قانون مناهضة الإرهاب البريطاني.علي القيسي: ثمة ملاحظة، إن شخصاً عمره 75 سنة لا يكتفون بسحبه من لحيته ولكن يجبرونه على لبس " مايوه بيكيني" الخاص بالبحر، ويشغلون له الموسيقى الصاخبة، وعندما يرفض أن يرقص، وبعد ساعة وبعد أن يركزوا عليه خمسة كاميرات يحضرون له فيلماً قاموا بدبلجته بأنه كان يرقص، وهذا يحدث أمام 25 أو 40 شخص من أخ وابن أخ من أقاربه، وهذا كلام أتحرج أن أقوله أمام النساء، وعندما شخص يُطلب منه أن يمارس الجنس مع المجندة ويرفض، يكون جزاؤه أن تلبس جهاز تناسل اصطناعي وتغتصبه، ويُطلق سراحه بعد 15 يوماً كونه من الاعتقالات الخاطئة ويقوم بعملية تداخل جراحي، هكذا يحصل فكيف يمكن أن يتم امتصاص العنف والغضب الذي في داخله. أو من امرأة تغتصب أمام أعيننا وأمام أعين عشرة أو خمسة عشر شخصاً وهم معروفون، فكيف تُطلب منهم الغفران أو النسيان ولعل هذا هو المولّد الأساسي للعنف.
الدكتور شعبان: شكراً جزيلاً لكم وشكراً على حضوركم، والشكر لمركز دراسات الوحدة العربية الذي استضافنا، الشكر موصول إلى الأستاذ علي القيسي على تحمله لأسئلتنا اللجوجة الملحة التي ذكرته بمأساة حقيقية، على الرغم من أننا نحن جميعنا نعيش هذه المأساة، إلاّ أنه وقع الظلم عليه مضاعف وعانى ما عاناه ويقوم الآن بمهمة جليلة ودور مشرف في فضح التعذيب وفي فضح الانتهاكات التي يتعرض لها المواطن العراقي بعد الاحتلال، وما يتم على أيدي السجانين الأمريكان والشركات المتعاقدة معهم فضلاً عن السجون العراقية الأخرى. شكراً جزيلاً لكم مرة أخرى والسلام عليكم.
المصدر: مجلة المستقبل العربي
د. عبد الحسين شعبان:
التعذيب ظاهرة مشينة وهمجية تعود الى الماضي، حتى وإن استمرت في عالمنا المعاصر، ففي الدولة المدنية المتطورة حيث المواطنة التامة وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان يمكن من خلال المساءلة والشفافية ملاحقتها وتطويقها وإنزال العقوبات بمرتكبيها، خصوصاً وأنها ظاهرة مستهجنة ومدانة قانونياً وإنسانياً ودينياً وأخلاقياً. وإذا كانت ظاهرة التعذيب متفشية بل تكاد تكون روتينية في عالمنا العربي والاسلامي وبلدان العالم الثالث عموماً، فإن البلدان الغربية ليست بريئة منها سواءًا إبان تورطها في حروب خارجية واحتلالات عسكرية أو عقوبات جماعية وحصارات دولية، أو حتى في سجونها كما أشار الى ذلك التقريرالمفصّل لمنظمة العفو الدولية الذي صدر عام 1998. وتعاظم الامر بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر ) 2001 الارهابية التي استخدمت ذريعة للتجاوز على الحقوق المدنية في الولايات المتحدة في الحملة التي شنتها على الارهاب الدولي.
رغم الحزن والمرارة التي تنتابني وأنا أدعو الحاج علي القيسي لتقديم شهادته حول التعذيب في العراق، لكنه في الوقت نفسه آمل أن تكون هذه المقابلة مفيدة ونافعة لما يختزنه من المعرفة والتجربة والخبرة بما ينفع مناضلي حقوق الإنسان وجميع المعنيين بقضايا الحريات والإصلاح والديمقراطية ويكون رادعاً أخلاقياً وانسانياً لإدانة ظاهرة التعذيب النكراء، لانها تنتمي الى عالم الوحوش وليس الى عالم البشر. أرحب بكم وبالحاج علي القيسي الذي هو أحد ضحايا التعذيب في سجن أبو غريب الشهير. وأعتقد أن صورته سبقته إلى المحافل الحقوقية الدولية وإلى شاشات التلفاز وإلى الإعلام وإلى الصحافة في كل مكان.
هذه الصورة التي اشتهرت والتي سيتحدث عنها بعد أن نعرضها على الشاشة أيضاً. نرحب أيضاً بالدكتور الطيب البكوش وهذه فرصة لنلتقي به وهو مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان ومقره في تونس والذي له دور كبير في نشر ثقافة حقوق الإنسان والتربية عليها وذلك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً وحتى هذه اللحظة، وقام بتدريب مئات بل آلاف من المتدربين على ثقافة حقوق الإنسان ونشر الوعي الحقوقي والديمقراطي بشكل عام، وتعدّ إسهاماته الفكرية والثقافية ذات شأن كبير في هذا الميدان. أرحب أيضاً بالسيدة جمانة مرعي ممثلة المعهد العربي لحقوق الإنسان في لبنان والذي افتتح الآن دورة جديدة لدراسات الماجستير على حقوق الطفل واتفاقية حقوق الطفل وهي بادرة طيبة بالتعاون مع عدد من الجامعات والمراكز الأكاديمية، كما أرحب بالآنسة ماجدة صبرا ممثلة مجلة "الشراع" اللبنانية في هذا اللقاء وبعدد من الباحثين العاملين في مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.
مثلما سبق أن قلت أتمنى أن يكون هذا اللقاء غير تقليدي وأن نبادر إلى حوار جماعي وندعو الأستاذ علي القيسي يتحدث بانسيابية عن تجربته، عما شاهده، وصادفه، وتعرّض له شخصياً أو ما تعرض له زملائه وما سمعه في معتقل أبو غريب. وفي الوقت نفسه أعتقد أن هذه فرصة لإدانة التعذيب كظاهرة مشينة ينبغي أن نتخلص منها في عالمنا العربي والاسلامي بعد أن سبقنا العالم بفارق شاسع وبخطوات حثيثة لتحجيم هذه الظاهرة وتطويقها والقضاء عليها وعلى كل ما له مساس للحطّ بالكرامة الإنسانية. على الرغم من أن العالم المتحضر، كما قلت، سبقنا بخطوات متقدمة على هذه الصعيد إلا أنه في الفترة الأخيرة انكتشفت ظاهرة وجود معتقلات سرية في العديد من بلدان العالم خصوصاً في بعض بلدان أوروبا الشرقية مثل رومانيا وبولندا وغيرها وهناك شكوك بوجودها في بعض البلدان العربية فضلاً عما يتعرض له المعتقلون في سجن غوانتانامو الذي لم تنكشف حقيقة ما يجري فيه حتى هذه اللحظة رغم ورود أخبار متواترة عن سؤ الأوضاع فيه، ولعل ما جرى في سجن ابو غريب والسجون الأخرى بعد الاحتلال الامريكي للعراق، كان قد وضع علامات إتهام كبيرة حول قيم الحرية وحقوق الانسان التي تشبثت بها الولايات المتحدة، والتي تعاملت بالضد منها وبخاصة مع البلدان النامية ومنها البلدان العربية والاسلامية طبقاً لمعايير انتقائية وازدواجية.
وقبل أن أعطي الكلام للاستاذ علي القيسي أود أن أشير الى أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم بموجب الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب لعام 1984. وقد اعتبر المشرّع الدولي أن مسألة إلغاء التعذيب تستحق الأولوية، ويمكن ملاحقة مرتكبيه أينما كانوا في أراضي الدول الأطراف الموقعة على الاتفاقية الدولية كما يمكن إجراء تحقيق دولي عند توفّر المعلومات.
التعذيب باختصار هو: عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أم عقلياً ( نفسياً ومعنوياً) يلحق عمداً بشخص ما، بقصد الحصول على اعتراف منه على عمل ارتكبه أو يشتبه أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه...
أترك الآن الكلمة أولاً كمقدمة واستهلال للأستاذ علي القيسي ثم سيتحدث الأستاذ الدكتور الطيب البكوش ونفتح فيما بعد باب المناقشة. تفضل أستاذ علي.
علي القيسي: بسم الله الرحمن الرحيم. (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيراً مما خلقنا تفضيلا)(1)
هذا هو شعارنا نحن ضحايا سجون الاحتلال الأمريكي. عندما كنت في المعتقل قررت أن أؤسس جمعية تهتم بشؤون المعتقلين وقضاياهم. وقد تم اعتقالي في 13/10/2003، في منطقة العامرية في بغداد وجرى نقلي إلى أحد المواقع العسكرية الأمريكية التي أيضاً فيها معتقل وبقيت فيها يومين ومن ثم تم نقلي إلى سجن أبو غريب. ولا أريد أن أطيل في التفاصيل، ولكن أول سؤال سُئلته أثناء دخولي سجن أبو غريب هو هل أنت سني أم شيعي؟ وسُئلت من قبل ضابط أمريكي ومترجم كان معه. وفي الحقيقة استغربت هذا السؤال وقلت له أنه لأول مرة يسألني شخص هذا السؤال، هل أنت سني أم شيعي؟ قلت له أننا وصلنا إلى مرحلة أنا لم أسمع شخصاً يسأل هذا السؤال لأحد، وصلنا مرحلة أن الإنسان حتى في الزواج لا يُسأل هذا السؤال عن مذهبه، فقال لي جاوبني فقط. وبدأ يطرح سلسلة اتهامات ومن ضمنها أنه أنت تكره السامية. والحقيقة هذه التهمة كانت غريبة عنّا وبخاصة في العراق، وعن شخص مثلي أنا، نحن معرفتنا بالسامية أن سام هو من آباء البشر فمن غير المعقول أن نكره شخص من آباء البشر ونحن في ثقافتنا العربية والإسلامية نعد آباء البشر من الأنبياء. فبدأ يوجه إلي سلسلة تهم ومن ضمنها أنه عندك تداخل جراحة في يدك، ولا بد أن يكون سببه مقاومة الاحتلال أو الهجوم على قوات الاحتلال. وقلت أن الطبيب الذي أجرى لي العملية هو الدكتور عماد سمسم رحمه الله، وزودته برقم هاتفه، وقلت له أن هذا الرجل أجرى لي عملية جراحية قبل بدء العمليات العسكرية ويمكنك الاتصال به.
في النهاية قال لي: إن عملية الحصان الحديدي في هذا الشهر، ومهمتنا أن نجمع أكبر عدد من وجهاء المجتمع والناس المؤثرين فيه والذين لديهم إطلاع على أوضاعه، نريدهم أن يتعاونوا معنا ويفيدونا في عمل تشخيص للعناصر التي تشكّل خطراً علينا كقوة محتلة في العراق. في الحقيقة لم يكن الوضع في العراق آنذاك في الخطورة التي هو عليها الآن، فاستغربت من هذا الطلب بالنسبة الى منطقتنا. فقال أنت لديك مشاكل مع الأمريكان وقد صرحت ضدهم في الصحف. وبالفعل كان في منطقتي ملعب أطفال كنا قد أعددناه كحديقة.
الدكتور شعبان: في أية منطقة؟
علي القيسي: في منطقة أبو غريب.
الدكتور شعبان: يعني أنت تعيش في منطقة أبو غريب أصلاً ودخلت سجن أبو غريب فيما بعد.
علي القيسي: قبل العمليات كان لدينا منطقة مخصصة لرمي الأنقاض، نظفتها وجعلت منها ملعباً للأطفال. بعد العمليات العسكرية التي حصلت في العراق بدأ الأمريكان ينقلون أنقاضهم من المطار ويضعونها في الملعب. وكثير من الناس قالوا: أنهم يتوقعون أن يصبح هذا المكان بوجود الأمريكان ملعباً وليس ساحة لرمي الأنقاض، والأنقاض كانت عبارة عن أطراف بشرية حتى كان من ضمنها مجلات وأشياء خليعة، وأنقاض بشرية من معركة المطار التي استخدمت فيها أسلحة متطورة، وحتى دكتور المستشفى في أبو غريب اتصل فيَّ، لأن هناك أناساً فقراء وحالتهم المادية صعبة.
الدكتور شعبان: توجد أحاديث كثيرة في الصحافة الغربية والأمريكية تحديداً على أنه استخدم الفوسفور الأبيض في معركة المطار أيضاً وليس فقط في الفلوجة مثلما انكشف مؤخراً، وإنما هناك استخدام للفوسفور الأبيض ولأنواع أسلحة متطورة أخرى في معركة المطار، لدرجة أن اللحم البشري كان يتفسخ وهو على الجسم وتتهشم العظام ويحدث نوع من التيبّس والاحتراق، فهل حصل هذا؟ وهل لديك معلومات عنها يمكن أن تفيد الرأي العام؟
علي القيسي: في الحقيقة، الأطراف البشرية، التي رأيناها، موجودة ضمن الأنقاض، أنا رأيت في المتاحف المصرية صوراً للمومياء، والأطراف البشرية كانت مشابهة للمومياء وهي متيبسة تماماً، وكأنما مرّ عليها مئات أو آلاف السنين، وهذا ما استغربناه. والدكتور في المستشفى اتصل بي وقال إذا حصل طفح جلدي فسببها تلوث كيمياوي أو مادة غريبة في منطقتكم، ونحن حاولنا أن نمنع الأمريكان وفهمناهم هذا الكلام (أي عدم رمي الأنقاض)، ولم يستجيبوا وحاولنا بعدها الاتصال بالصحف والمجلات وكان هناك صحافة في بغداد آنذاك، واستطعت الاتصال ببعض الصحافيين الموجودين في مناطق بغداد مثل الكرادة وغيرها وأبلغناهم، ونظمنا حملة إعلامية لهذا الأمر، ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك عداء بيننا وبينهم.
الدكتور شعبان: كم استغرقت فترة التحقيق معك؟
علي القيسي: التفتيش طبعاً هو من بداية الدخول، وهو كان مهيناً جداً.
الدكتور شعبان: التفتيش كان داخل المنزل.
علي القيسي: لا تفتيشي كان في الشارع.
الدكتور الطيب البكوش: إذن، اعتقالك كان سببه هو هذا الموقف.
علي القيسي: نعم بالضبط. وهو قال لي إنه يعرف أنه لدي مشاكل وأنني أعترض على رمي النفايات والأنقاض، فقلت له إنني لا أعترض على طريق السيارات الأمريكية، بل على هذه الطريقة في رمي الأنقاض وعلى هذه الحالة. قال أنت أيضاً اتصلت بالصحافة وإنك تتحدى الأمريكان، وكان هناك سلسلة اتهامات.
الدكتور شعبان: في فترة التحقيق، التفتيش أولاً كيف كان؟
علي القيسي: التفتيش كان مهيناً جداً، وأنا آتٍ من موقع من المفترض أنني قد فُتِّشتُ فيه، وكنت معتقلاً في موقع عسكري، لكن هم يتقصدون هذا الأمر.
الدكتور شعبان: أنت كنت في معتقل العامرية، فكيف جرى التفتيش والتحقيق معك في معتقل العامرية وصولاً إلى أبو غريب.
علي القيسي: لم يجر التحقيق معي في معتقل العامرية، التقيت فقط بكابتن قدم نفسه باسم فيليبس، وقال لي أن هناك جهة أخرى طلبتك وتريد التحقيق معك، ويبدو أن أهلك يعلمون باعتقالك في معتقل العامرية، وهناك مئات الأشخاص ينتظرون نتيجة تحقيقك، ولكن نحن لا نعرف عنك شيئاً، وسوف نحوّلك إلى سجن أبو غريب. في البداية أنا لم أكن أعرف أنني في سجن أبو غريب، الى أن قال لي أنهم سينقلونني إلى جهة أخرى، لأنهم عندما نقلوني وضعوا كيساً في رأسي وطرحوني في السيارة ووضع الجنود أحذيتهم فوق رأسي وكانوا أربعة أو خمسة يضحكون ويتهكمون وأحذيتهم. وعندما رفعوا الكيس عن رأسي عرفت من خلال أسئلة الموجودين أننا نحن في مكان اسمه أبو غريب، هذا كان التحقيق البدائي.
بداية التفتيش: الانسان يفترض أن يعتقل في ضوء التحقيق البدائي، لكن نحن أخذوا لنا طبع الأصابع واللعاب والقرنية. يظهر أن نية الاعتقال كانت موجودة قبل بدء التحقيق. واستمر التحقيق معي حوالي ساعة ونصف وكنّا نجلس في مرافق صحية شرقية طافية، وكل شخص يستنطق يجلس في مرافق صحية طافية من القاذورات، ويُجبر على أن يجلس فيها وثمة في الباب محققان، وقفا على شكل سهم وخلفهما المترجم. أسئلة كثيرة، في نهايتها قالا لي: إن الأشخاص الذين سبق أن اعتقلناهم أبدوا استعدادهم للتعاون معنا، وانت دليل تعاونك معنا هو إعطاؤنا أسماء أشخاص تعتقد أنهم من الممكن أن يشكلوا خطراً علينا. فقلت ضمن منطقتي لا أعرف، قال نحن لا شرط لدينا، أعطينا أية أسماء ونحن نعتبرها بادرة وفاتحة تعاون معنا، وهذا حدث مع الكثيرين من الناس الذين أحضرناهم قبلك، وحتى لو كان هؤلاء الناس ممن تكرههم شخصياً أعطنا أسماءهم فقط ونحن سنجري عملية جراحية ليدك، ونعيدها مثلما كانت، وممكن أن نساعدك بأشياء كثيرة. أنا رفضت طبعاً. فقالا أنهما سيحولانني إلى غوانتانامو وإلى مكان الكلاب تأنف من العيش فيه.
بالفعل تم نقلنا وكنا حوالى 20 إلى 30 شخصاً في شاحنة، والأكياس في رأسنا ما عدا شخص واحد لم يكن الكيس في رأسه.
الدكتور شعبان: هذا الشخص عراقي أيضاً، وهل عرفتموه من هو؟
علي القيسي: سألنا من رأسه مكشوف، فليرى لنا أين نحن؟ فقال أنا رأسي مكشوف، فقلنا له: أخبرنا أين نحن، فقال لا أستطيع لأنني أعمى، وكانوا قد اعتقلوه بتهمة مقاومة الاحتلال من منطقة الدورة.
وبدأوا بتوزيعنا من الشاحنة قسماً قسماً، لأننا كنا نشعر بفراغ في الشاحنة من لحظة إلى أخرى إلى أن وصلنا الى مرحلة بقيت أنا ومعي اثنان نزلنا، ورفعوا الأكياس من رأسنا، فرأينا لافتة كبيرة موجودة أمامنا ومكتوب عليها بالعربية والإنكليزية، وأجبرونا على قراءة هذه التعليمات. وكانت تتضمن لا تقترب، لا ترفع وجهك في وجه الأمريكي، لا تقترب من السياج، وكان فيها تعليمات كثيرة، لا أتذكر أين كنا، وماذا رأينا في الأمكنة التي كنا فيها قبل أن نأتي إلى هنا. ونقلونا إلى موقع اسمه الفيجي لاند وهو يمتاز عن معسكرات الاعتقال الأخرى، بأن كل خمس خيم محاطة بسياج، والخمس وعشرون خيمة محاطة بسياج كونكريتي ارتفاعه حوالى 12 متراً. وكنا معزولين تماماً. وبقيت فيه فترة المعاناة كانت فيه طبعاً، نحن كنا في خيمة واحدة مجموعين بمعدل 45 إلى 50 شخصاً، حصة الشخص منا حوالي 30 إلى 35 سم مكاناً للنوم داخل الخيمة. وكان كل واحد منا لا يستطيع أن يقلب إلا على صاحبه، بالإضافة إلى النوم في الوسط. المرافق الصحية كانت ثلاثة ونحن حوالي 300 شخص. والمرافق الصحية فيها (تانك) خاص بداخلها وقد يمتلئ هذا (التانك)، فعملية الذهاب إلى المرافق كانت تتطلب ساعات كثيرة.
كانوا يسمحون لكل خيمة يومياً بستة جليكنات ماء (غالونات)، وبمعدل أربعين واحداً، تصل حصة الشخص منا إلى بطلين أو بطلين إلا ربع أو بطل ونصف (البُطل هو قنينة بين نصف الى لتر) نستخدمها للاغتسال والوضوء والشرب وكل الأمور الأخرى. ويحصون أرقامنا تباعاً، ولا يوجد هناك أسماء، حيث يتحول الإنسان عندما يدخل إلى هناك إلى رقم. وكان هناك مقر للتحقيق بجانب مقر الخيم، في الحقيقة بدأت ألتقي بناس هناك، التقيت بناس آتين من سجون أخرى، مثل سجن المزرعة في الفلوجة التي كانت حتى تلك اللحظة لم يطلق فيها طلقة واحدة ضد الأمريكان، وكانوا يعتبرون هذا أو منطقة سجن عين الأسد في قاعدة البغدادي أو المحطة الحرارية في المسيب أو في اللواء الثامن في الرمادي.
الدكتور شعبان: هذه كلها سجون أمريكية، وعدد السجون الأمريكية ستة وثلاثون سجناً.
علي القيسي: نعم، ستة وثلاثون سجناً. وبدأوا يروون قصصاً، حيث أصبح سجن أبو غريب نزهة بالنسبة لنا، فأحد من الفلوجة كانوا يحقنونه بأبر للهلوسة، يقول: مجرد ما أغمض عيني أرى تهيّآت فأبقى صاحي لمدة ثلاثة أو أربعة أيام. هناك شخص اطلعنا على آثار الكي بالنار في سجن البغدادي ولد اسمه عبد المجيد. سجناء المحطة الحرارية كانوا آتين أيضاً من منطقة المسيب، ومن ضمنهم ضابط شرطة مُكلف من قبل مديره بحماية تظاهرة سلمية، ولكن صورته ظهرت وزودوا الأمريكان بها فجاءوا به إلى المعتقل. وبدأت أسمع قصص غريبة عن سجون أخرى وحتى في الشمال الأخوان الأكراد كانوا معنا. استدعوني مرة واحدة وأيضاً طرحوا عليّ الأسئلة نفسها.
الدكتور شعبان: كم يوماً دام التحقيق؟
علي القيسي: بقيت حوالى عشرة أيام، ومن ثم استدعائي والتحقيق معي محققة "مجندة" حوالي ساعة ونصف الساعة كما أعتقد، وكانت المجندة تلبس ملابس خليعة جداً.
الدكتور الطيب البكوش: هل هي نفسها التي حوكمت في أمريكا؟
علي القيسي: لا، لم نصل بعد إلى ذلك.
الدكتور شعبان: تلك جاءت في مرحلة أخرى.
علي القيسي: الأسئلة نفسها والتهديد نفسه أيضاً سنقوم بإرسالك الى غوانتامو.
الدكتور شعبان: هل كان هناك تعذيب بالضرب.
علي القيسي: في البداية لا، ولكن كانوا يضعونا في ربط بحلقة إلى الأرض، ويحاولون إبقاءنا في وضع غير متوازن، وبعدها هددني وقال لي أنهم يريدون أن ينقلوني إلى المكان الذين قالوا لي عليه. وبعد فترة نادوا بالرقم الخاص بي 151716، وكان ذلك في شهر رمضان وطبعاً عانينا كثيراً في تلك الفترة، فعلى سبيل المثال سيارة الطعام الخاصة بالفطور كانت تأتي قبل الفطور بخمسة ساعات وتبقى واقفة لمدة خمسة ساعات بعد الفطور أمام أنظارنا ولا يوزعون لنا الفطور. والجامع كان قريباً من السجن وعندما يصيح المؤذن بالإمساك يوزعون علينا طعام السحور، وهذه من الوسائل التي كانوا يتبعونها.
الدكتور شعبان: هذا ما يسمى المساس بالمعتقدات، المساس بالعقائد وبالقيم الدينية والثقافية للناس الذين يجري انتهاك حقوقهم وتعذيبهم وبخاصة من جانب قوات الاحتلال.
علي القيسي: كان هناك شخص اسمه العارف الكعبي معتقل معنا من أهالي النجف، وكان هناك مشكلة في محافظة كربلاء، وتدخّل بصفته رجل دين لحل المشكلة، وبالفعل كان قد قطع شوطاً في حل المشكلة التي حصلت، ولكننا فوجئنا أنهم أثناء الليل داهموا المكان الذي كان موجوداً فيه واعتقلوه. كان عددنا في القاطع الذي كنا فيها كنا حوالى 200 إلى 300 معتقل، أغلبنا وهذا أخجل أن أقوله، من طائفة معينة، فكان الرجل الذي طلبنا منه أن يصلي بنا ويؤمنا صلاة جماعة، عنوان الترابط والمحبة التي كانت موجودة هناك. فتفاجأنا أن الأمريكان كانوا قد نصبوا كاميرا أثناء الصلاة ومجرد ما انتهت الصلاة أخذوا وأذاقوه مختلف أنواع العذاب، وقالوا له كيف تصلي فيهم وأنت شيعي وهم سنّة. فأعلنا الإضراب!!
الدكتور شعبان: يعني القسمة الطائفية الاثنية التي جاءت مع الأمريكان وتكرست بخاصة في مجلس الحكم الانتقالي عبر هذه المحاصصات امتدت إلى المفاصل الدنيا وإلى المواقع الدنيا من سجون ومعتقلات ومراكز شرطة وأمور أخرى.
علي القيسي: قمنا باقتلاع أوتاد الخيم، وطالبنا بإعادته، وبالفعل أعادوه إلينا بعد أربع ساعات ولكن آثار الضرب والتعذيب والإذلال بادية عليه، واستقبلناه وأصررنا على أن يؤمنا في الصلاة في كل وقت. وبعدها صاحوا باسمي قبل الفطور بخمس دقائق، قيدوني إلى الخلف وكيس في رأسي وزنجيل(سلسلة) في رجلي، ومشيت مسافة ودفعوني إلى سيارة دفع. ووصلت إلى مكان أنزلوني فيه، وكان هناك ممر طويل وسمعت أصوات أناس تستغيث ونباح كلاب، رفعوا الكيس من رأسي وفتحوا يدي ورجلي، وكنت ألبس دشداشة وقالوا انزع ملابسك، وكان هناك جنود أمريكان، وأتذكر أن شخصاً كانت صوره منشورة في وقتها اسمه ديفيد ونزعت الدشداشة وبقيت في الملابس الداخلية. ولكنهم قالوا لي :يجب أن تنزع كل ملابسك، وأنا رفضت، فنزعوا ملابسي بالقوة، وقيدوني أيضاً من رجلي ويدي، ومشوني مسافة حوالى عشرين متر والكيس في رأسي. ويبدو أنه كان هناك سلّم أي درج، فحاولت الصعود ولكنني لم أستطع، فأخذوا يضربوني بأخمس البنادق، وكانوا يرددون عبارة بالإنكليزية Let's Go، وفوقعت على بداية السلم، وتابعوا ضربي بالأحذية وبالبنادق فاضطررت الى الزحف في هذا الوضع على ركبتي وذقني على الدرج، وصادف أن الدرج فيه منعطف فاستمرت عملية صعود الدرجة ساعة ونصف الساعة أو ساعتين. ووصلت إلى مكان، وكان الكيس في رأسي، وكانوا في ذلك الوقت يرمون عليّ أوساخاً، حيث كنت أشتم رائحة الأوساخ والفضلات، هناك سمّاعة يصيحون فيها آذاني فيها بأذني "إعدام، إعدام"، ويسحبون أقسام بنادقهم ومسدساتهم ويضعونها في رأسي ويصيحون في السماعة تكراراً "إعدام، إعدام"، وكانوا ينطقونها بالعربي أحياناً. وكانوا يحضروا "الكلبشة" وهي لها صوت، وكانوا يضعونها على السماعة بجانب أُذٌنيَّ، وكانوا يكتبون بأقلام ماجيك على جسمي ولم أكن أعرف ما هي العبارات التي يكتبونها، ومن ثم ربطوا يديَّ إلى الأعلى في باب زنزانة، إلى أن جاءني أحد الأشخاص، وهناك الوقت معدوم لا نعرفه، وكان هناك جامع قريب وهو جامع الشيخ ضاري وهو قريب من سجن أبو غريب، ومن خلاله كان ممكن أن نحسب الوقت، حيث اقتادوني قبل الآذان بخمس دقائق، وكنا نحسب الوقت من خلال الآذان، وبقيت على هذه الوضعية تقريباً حتى صلاة الفجر، وجاء شخص ورفع الكيس من رأسي وقدم لي نفسه وكان يتكلم بلهجة لبنانية، وقال لي، وكان يستخدم حرف القاف في كلامه، وقال أقدم لك نفسي أنا محقق مشهور وحققت في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي صحراء النقب، وحتى كلمة غزة لفظها Gaza، وفي الجنوب اللبناني. وأنا معروف عندما أحقق مع شخص فإما يموت أو يفعل ما أريده، والأسئلة التي سبق أن سألناك إياها لن أعيدها عليك، لأنك أنت أكيد تتذكر تلك الأسئلة، وأنا معروف كمحقق. استغربت من هذا التقديم ومن ثم أعاد الكيس إلى رأسي، وفتح يديَّ وغير الوضع حيث أصبحت مربوطاً بيد إلى أعلى وأخرى إلى أسفل، ودائماً كانوا يكتبون على جسمي بأقلام الماجيك، ويرمونني بالماء البارد، وتعرفون أن الطقس في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003 وبداية شهر كانون الثاني (يناير)2004 كان بارداً جداً، ويومياً يسألونني الأسئلة نفسها، حول استعدادي لإعطائهم أسماء، ويقولون إذا كنت مستعداً للتعاون معهم، وأنني تحدثت الى الصحف، وقالوا لي: أنت تعرف الإنكليزية، لأنك اتصلت بصحيفة أجنبية وتكلمت معها، فكيف عرفت التواصل معها ؟ وكنت قد تواصلت مع الصحيفة الأجنبية أثناء حضوري فاتحة المرحوم محمد الراوي رحمه الله، وكانت هناك صحف أجنبية، والتقيت بصحيفة أجنبية وشرحت لها الوضع المتعلق بمخلفات الأسلحة الخاصة بالمطار.بقيت على هذه الوضعية حوالى ثلاثة أيام دون أكل نهائياً، وكانوا يحرصون دائماً على رميي بالماء والأصوات في أذنيَّ، ولقد وصلت إلى مرحلة من الانهاك والتعب صرنا فيها على استعداد حتى أن أنام وأنا واقف، لكن لم يكونوا يسمحوا حتى بذلك، ولم يكن مسموحاً لنا بقضاء حاجتنا. في اليوم الأخير جاءني (المحقق) وقال أنه سيعّد لي حفلة ((Music، وأنا لا أعرف ما يعني بذلك، وبعدها عرفت أن (Music) هي موسيقى، ومن ثم أدخلوني إلى أحد الزنزانات، ونمت على بطني وربطوني من يدي في الزنزانة، وفي تلك اللحظة تمنيت أن يكون الكيس موجوداً في رأسي، حيث جاءوا بسماعة ارتفاعها متر مربع مثل سماعة المسجّل، وشغلوا أغنية صوتها يُسمع على مسافة كيلومتر، أذكر منها Babillon Babillon، وهي أغنية تغنيها فرقة معروفة!!
الدكتور شعبان: هي أغنية مشهورة ومنعت في بعض البلدان.
علي القيسي: أنا لا أعرف الأغنية ولا حتى سمعت بها، ولكن قلت لك أنني تمنيت في تلك اللحظة أن يعيدوا الكيس إلى رأسي بالرغم من المعاناة التي أعانيها من وضع الكيس لأنه عادة يبقى خمسة أو ستة أيام في رأس السجين، عسى أن يخفف الصوت من رأسي، وبعد ساعتين أو ثلاثة على الرغم من أنني لا أشعر بالوقت لأنني لا أسمع صوت آذان أو غيره، فيبدو أنه توقف، ولم أكن أعرف أنه توقف لأنه حتى عندما توقف كنت أعتقد أنني ما زلت أسمعه، وجاء هذا الشخص وتكلم معي ولكنني لم أسمع، وأخذ صوراً لي وأنا في هذا الوضع، وبعدها دار ماء على رأسي، وكانت فرصة لأبل لساني من الماء الذي رماها علي، وتركني لفترة بعدها حيث بدأت أسمع وبدأ يسألني الأسئلة نفسها وعن رأيي في حفلة التي عرفت أنها حفلة الـ(Music). انتهى هذا اليوم الرابع وبدأنا ثاني يوم صباحاً باليوم الخامس، وأدخلوني صباحاً على زنزانة رقم 49، طبعاً عندما أدخلوني الى الزنزانة، الكاميرا كنا نراها في يد أي شخص، بيد الجندي أو المحقق، وحتى التلفون، في الحقيقة التلفون كان جديداً عندنا في العراق ولم أكن أعرف أنه في التلفون أصبح هناك كاميرا، وكانوا يقتربون بالتلفون منا وكنا نعتقد أنهم يسجلون أصواتنا واستغاثتنا، فبعدها عرفنا أنهم يصورون بـ "الموبايل". ورفعوا الكيس من رأسي وفتحوا يديَّ ورموني في الزنزانة، وبدأت بعد ساعة أستعيد تركيزي، وكانت الزنزانة عبارة عن متر ونصف المتر تقريباً، طولها وعرضها متر وضمنها مرافق صحية، فرأيت الزنزانات التي أمامي، وأبوابها مشبوكة ومفتوحة، وكنت أنا أشعر بحرج لأنني كنت عارياً تماماً، وكان هناك الشيخ أبو جبريل إمام جامع محمد الأمين في المحمودية الذي قال لي أن أطمئن لأنه صار له ثلاثة أشهر عارٍ تماماً وحتى عندما يحاول أن يجمع ورقاً من الورق الخاص بالأكل الذي يأتي به الأمريكي، يمنعوننا. فسألته هل الوقت الآن نهار أو ليل، فقال لي: أن الوقت نهار، وقال لي: حاول أن تفطر، والأكل الذي كانوا يوزعونه لنا بعد خمس أو عشر دقائق يفتشون عليه، ولكن الأخ الذي كان مقابلاً لي كان يخبئ كيساً فيه جبن في مكان المرافق الصحية يعني بداخلها، فأخرجه وأعطاني إياها، وقال لي مرة أن أعيد الكيس الفارغ لأنه لا أعرف كيف أتعامل معه، وهذا عندما يجدوه يعتبرونه جريمة أو تهمة. وفي الحقيقة شربت أنا ماء بكثرة، وصار عندي ألم في معدتي لأنني لم آكل منذ خمسة أيام، وأنا أعاني حتى الآن من ذلك. حتى نوعية الجبن التي كانوا يأتون به كان فيه فلفل حار. فبدأت أسألهم، وبدأوا يقرأون لي الكتابات، وقالوا كل واحد هناك يسمونه باسم، والغريب أنهم كانوا يسمونني كولن باول وكان ذلك مكتوباً على جسمي وعلى وجهي، وعلى يديَّ هنا التي التهبت نتيجة الماء والدوس عليها، كانوا كاتبين عليها اليد المتعفنة، يعني عبارات بالإنكليزية كانوا يقرأونها لي.فقالوا لي أن هذه يسمونها حفلة الاستقبال، وكل شخص يأتي يعملون له حفلة استقبال، وكل واحد من الممكن أن تبقى هذه الحفلة لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة أو أكثر، وأنت استمرت معك خمسة أيام، وقالوا لي أنني ما زلت في طور التحقيق وطلبوا أن استعد للأسوأ، واستدعوني مرة أو مرتين للتحقيق والأسئلة كانت مثلاً تدوم لمدة عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، وأحياناً السؤال يعاد عشرة مرات. وقالوا لي لا تستغرب إذ من الممكن أن تكون الأسئلة غريبة، حيث كان هناك شخص تاجر والمحقق كان يحقق معه عن عملية التجارة في العراق، البيع والشراء وما يخسر وما يربح، والمزارع، كان لدينا دكتور جيولوجي كانوا يحققون معه عن أماكن ومواقع المياه الجوفية والمعادن وإلخ، وقالوا لا تستغرب من أي شيء يسألونك فيه.
الدكتور شعبان: ما هي مهنتك في الأساس أخ علي؟
علي القيسي: أنا في الأساس مدرس شريعة متقاعد. طبعاً التحقيق في أول جلسة تشعر منه أن القصد من الاعتقال ليس التحقيق أو المعلومات، ولكن القصد هو اعتقال أكبر عدد من الناس ووضعهم في هذا الوضع، هذا الشعور الذي ساد لدينا كسجناء، المهم كان هو الاعتقال والمهم أن يتعرض لذلك أكبر عدد من الناس. بعد خمسة عشر يوم بدأت، طبعاً العمل لم يكن عملاً فردياً، بل كان عملاً منظماً. كان في القاطع مائة زنزانة، وكل طابق فيه خمسون، وعرفت الخريطة فيما بعد عندما دخلت، أنت تدخل 25 على اليمين و25 على اليسار في الطابق الأرضي، وفي الطابق الأعلى الأمر نفسه. وفي المقابل كان قاطع النساء، وكان بيني وبينهم أبو زيد وهو مهندس زراعي كتبوا على جسده (Big Chicken) والغرفة التي حققوا فيها مع النساء هي مقابلنا، وكانت المعاملة نفسها للنساء وكنا نسمع استغاثاتهن. ونحن كنا في زنزانات وعراة فماذا نستطيع أن نفعل سوى أن نردد الله وأكبر، هذا ما كنا نستطيع فعله.
وكان مثلاً يجبر رجل على أن يذهب بالطعام الى النساء وهو عارٍ تماماً، وكنا نسمع استغاثاتهن، وبدأت الزنزانات تزدحم، فهم يريدون أن يضعوا أكثر من شخص في الزنزانة، لأن طريقة عملهم هي أن يأتوا بالشخص الى الخيم، يأخذون ما يأخذونه منه بالتحقيق وما لا يأخذونه فلا بأس بذلك، ومن ثم يحولونه إلى هذه الزنزانات التي كانت مظلمة ولا يعرف فيها الليل من النهار، وكانوا يشغلوا في بعض الأوقات موسيقى عالية وكنا لا نعرف الأوقات ولا نسمع الآذان في الخارج، وكان يأتي أيام علينا طويلة يضيع علينا اليوم وما هو وما هي الساعة. بدأوا يسرعون في عملية التحقيق وبعد 15 يوم أعطوني (One Blanket) بطانية واحدة، وقسم من الأخوان هنأوني لأنه أصبح لدي بطانية. فالبطانية كانت أمراً مهماً.
الدكتور شعبان: هل أنت معتقل سابقاً؟
علي القيسي: نعم في زمن صدام سبق أن اعتقلت؟
الدكتور شعبان: فما هو الفرق بين التعذيب هناك والتعذيب هنا؟
علي القيسي: ذلك التعذيب كان أعمى، ولكن هذا التعذيب فني. سأضرب لك مثلاً الشيخ حامد أبو دعاء، هذا الرجل مارسوا معه كل صنوف التعذيب ولكن بالكلام فقط ولعله كان أقرب الى السيف ففي اليوم الثاني لاعتقاله ومن خلال الاستمارة التي ملأها له ابنه الصغير اسمه براء، استدعاه محقق في الساعة الثانية ليلاً وقال له نحن آسفون داهمنا بالأمس منزلك وكنا نبحث عن وثائق، وأثناء استدارة الدبابة سحقت ابنك بالأرض. وأرجعوه الى الزنزانة، وطبعاً هذا اليوم الثاني بدأ يأخذ حبوب تحت اللسان والى يومنا هذا يعاني من مرض القب الذي أصابه!!
الدكتور شعبان: هناك فرق بين ما يجري في السجون الأمريكية وما يجري في السجون الرسمية العراقية حالياً، فنحن سمعنا قبل يومين الدكتور أياد علاوي رئيس الوزراء العراقي الأسبق يعترف صراحةً وعلناً بأن الوضع لا يختلف إن لم يزيد عما كان يجري في ظل النظام السابق من انتهاك لحقوق الإنسان ومن تعذيب. وقبلها كان الدكتور ليث كبه الناطق الأسبق باسم الحكومة اعترف بوجود تعذيب في مراكز الاعتقال العراقية. هل تستطيع أن تصف الحالة بين ما كان يجري في السجون العراقية أو التابعة للحكومة العراقية وبين ما يجري في السجون الأمريكية!؟
الدكتور الطيب البكوش: هذا الكلام الذي قاله علاوي، هل عشته أنت بين تجربتك السابقة من الاعتقال زمن صدام وما عشته بعد، هل ينطبق عليه هذا الكلام أم هو كلام فقط للاستهلاك السياسي؟
علي القيسي: في الحقيقة ينطبق عليه هذا الكلام إلى حد بعيد، لأنني أنا اعتقلت في وقتها في القصر الجمهوري في جهاز الأمن الخاص وهو أشد أماكن الاعتقال في زمن ذلك النظام. هناك نقطة يجب أن نوضحها للناس، وجود انتهاكات وتعذيب في ظل النظام السابق ولكن سجون النظام السابق لا تبرر وجود التعذيب الآن، وللأسف عندما نتحدث إلى الكثير من الناس يقولون أنه في ظل النظام السابق أيضاً كانت هناك مثل هذه الانتهاكات.( هناك من يريد أن يغلق أذنه وعينه عما يجر الآن!!).
الدكتور شعبان: سؤالي هو الفرق بين ما يجري في السجون الحكومية الآن التابعة للحكومة العراقية حالياً وبين ما يجري في السجون الأمريكية، وما انكشف في معتقل الجادرية من سجن سري تابع لوزارة الداخلية واضطرار وزارة الداخلية للاعتراف بذلك والصور التي شاهدناها على التلفاز من تعذيب ومن إساءة للكرامة الإنسانية كلها تعكس على أن هناك سجون بدأت تفوح رائحتها حتى أن الأمريكان تدخلوا للكشف عن هذا السجن السري.
علي القيسي: لقد أسسنا حالياً جمعية ينتمي اليها سجناء كانوا لدى الامريكان أو لدى الحكومة العراقية. ورغم قسوة السجون في السابق الاّ أن هناك بعض الضوابط الموجودة، لذلك فإن الفصل الجماعي أوجد نوعاً من الفراغ تم تعويضه بضباط ومراتب محسوبة على الاتجاهات الطائفية ورغم انه تم اعادة بعض ضباط الشرطة ممن لم يثبت تورطهم في أي جرائم في زمن النظام السابق، وهؤلاء الضباط أولاً تعرف جنابك أن الضابط العراقي من ضمن الدورة الخاصة به، هناك ثلاث سنوات دراسة، يدرس تشريع طب عدلي والقانون وحتى لديه كورس في الشريعة وحقوق الإنسان، وبمجرد أن تسلمت هذه الحكومة زمام الحكم أعلنت قوائم بأسمائهم واعتبرت هؤلاء الضباط من أزلام النظام السابق وطردتهم، ولذلك تجد ضابطاً الآن في الشرطة العراقية برتبة رائد لا يجيد القراءة والكتابة.
بالنسبة لمسألة السجون، لدينا الآن أسماء وخرائط وسجناء، هناك سجون ترتكب فيها فظائع.
الدكتور شعبان: المسألة دخلت على ميدان صراع سياسي وتصفية حسابات سياسية، يعني الحكومة الحالية اتهمت حكومة علاوي بالفساد والرشوة وتبديد المليارات، والحكومة السابقة تتهم الحكومة الحالية بممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان، قد يكون الاثنان صحيحان، وقد يكون هناك محاولة تصفية حسابات سياسية، لذلك أنا أريد أن أعرف الحالة التفصيلية، ما يجري في السجون الرسمية العراقية ما بعد الاحتلال إلى الآن وما يجري في السجون الأمريكية، فأيهما أكثر قسوة؟
الدكتور الطيب البكوش: لو سمحت، أنت قلت قبل بدأ التسجيل أن هناك من يدفع عشرة آلاف دولار أمريكي لكي لا ينتقل من السجون الأمريكية إلى السجون العراقية، فهل هذا الأمر يصح الآن بعد أن انكشفت فضائح السجون الأمريكية وأصبحت الإدارة الأمريكية والجيش الأمريكي يقلل من هذه الفظاعات، لأن ما ذكرته أنت في السجون الأمريكية هو فظيع للغاية، فلا يمكن أن نتصور أفظع منه. فهل المقارنة الآن لأن الأمريكان أصبحوا هم أقل فظاعة؟
علي القيسي: في الحقيقة الفظاعة هي نفسها مستمرة، ولكن ما يحدث في السجون حالياً وأنا أختلف مع أستاذي الدكتور شعبان حول " السجون الرسمية"، فلا يوجد الآن سجون رسمية، ونحن التقينا مع اشخاص كانوا معتقلين تحت فندق بابل، ويسمعون أصوات الأعراس.
الدكتور شعبان: أوضح لنا هذا الأمر.
علي القيسي: هناك سراديب في فندق بابل هي سجون ومعتقل، وهناك دور تابعة لمسؤولين حكوميين في النظام السابق تستخدم كسجون، هناك مزارع تستخدم كسجون.
الدكتور شعبان: أنا أقصد من جهات غير رسمية، أو بصفة شبه رسمية، أو ترتدي ملابس رسمية، ميليشيات أو جماعات مسلحة.
علي القيسي: الخلل الذي حدث عندنا الآن، هو عملية دخول الميليشيات إلى الأجهزة التنفيذية وهو الذي أربك الوضع، وإلاّ مثلاً تمت مداهمة جامع الإمام أبو حنيفة وقتل أربعة مصلين وإصابة أكثر من 17 شخصاً، وفي اليوم التالي صرحت وزارة الداخلية أنه لا يوجد علم لديها بذلك، فإذن هؤلاء كانوا 300 شرطي وعسكري مدعومين بدبابات وطائرات أمريكية فمن أين أتوا؟ هذا الذي يحدث، دمج الأحزاب، ودمج ميليشيات الأحزاب داخل الأجهزة التنفيذية في العراق هو الذي أربك العمل. والآن نلتقي بأناس يلاقون في السجون العراقية ما لا يلاقيه شخص لا في سجون الأمريكان ولا في السجون النازية ولا السجون الروسية إطلاقاً، بل أنه بلغ ثمن المكالمة من داخل السجن العراقي إلى أهل السجين 1200 دولار أمريكي.
الدكتور شعبان: قلت كما قال الدكتور البكوش أن هناك من دفع 10 آلاف دولار كي لا ينتقل إلى السجن العراقي من السجن الأمريكي. هل هذا صحيح وهل تؤكده باعتبارك سجيناً؟
علي القيسي: نعم. هذا لا يعني أن السجون الأمريكية هي رحيمة أو بعيدة عن الذي يحدث للسجناء من أذى.
الدكتور الطيب البكوش: هل هناك من يتوهم أن السجون الأمريكية هي أقل فظاعة، هل عنده علم أم يتوهم ذلك؟
علي القيسي: السجن الأمريكي يستخدم في عملية التعذيب النفسي وعملية الضرب وعملية التجويع وعملية الحرمان من النوم وعملية إطلاق الكلاب، لكن لا يستخدم المثقب الكهربائي، أو قطع الأطراف أو سلخ الجلود، أو الحقن. لدي صور على سي دي لشخص عمره 75 سنة من الأخوة الفلسطينيين في العراق يدعى أبو رياض وتم اعتقاله وتم سكب حامض الكبريتيك في أنفه وهذا الأمر موثق بصورة.
الدكتور شعبان: جرى الحديث عن الاعتداءات الجنسية في السجون الأمريكية، فهل ممكن أن تعطينا بعض التفاصيل وخصوصاً الصور الجماعية التي شاهدناها في سجن أبو غريب!؟
علي القيسي: في الحقيقة هذا هو ممر يستخدم للتحقيق، وهؤلاء الناس الذين ظهرت صورهم هم حراس السجن، أما المجرمون الحقيقيون فهم الذين يمثلون منتسبي الشركات من المحققين الذين ينتسبون إلى شركة(Titanic Robe) وشركة تايسي، هؤلاء هم المحققون والذين يتم تنفيذ أوامرهم، وهذه الشركات متعاقدة مع مرتزقة من كل العالم، تجد الأوسترالي والجنوب أفريقي والأمريكي.
الدكتور شعبان: هل كان هناك محاولات من جانب الضحايا لتقديم لائحة إتهام وتقديم دعاوى ضد هاتين الشركتين، وهل هناك وثائق تؤكد أن هاتين الشركتين كانتا وراء عملية التعذيب المنظم التي حصلت في السجون الأمريكية!؟
علي القيسي: في ما يخص الصورة، حتى هذه البطانية أعطيتها لأحد المحامين الأمريكان الذين أفهمونا أن الدعوة ضد الشركات هي أسهل من الدعوى ضد وزارة الدفاع الأمريكية وضد الحكومة الأمريكية، وهم يستخدمون في هذا الأمر قانوناً صدر في الثلاثينات ضد شركات الـ كابوني التي اعتبرت أرباحها غير شرعية، ولكن الغريب أن هذه الشركات بعد فضيحة سجن أبو غريب بشهر جرى تجديد العقد لها، وهذا دليل على أنه مَرْضيٌّ عن عملهم وفعلهم.
الدكتور شعبان: أنا أعتقد، وهذا للمشاهدين والقراء على حد سواء، الذين شاهدوا او لم يشاهدوا هذا الشريط، الذي فيه مأساة حقيقية وليست مأساة فردية وشخصية وإنما مأساة عامة ومأساة احتلال وما تبع هذا الاحتلال من معاناة، أنه لا بدّ لمنظمات وجماعات حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية ملاحقة ومساءلة المسؤولين عن هذه الأعمال والارتكابات الخطيرة خصوصاً الشركات، وبالتالي مساءلة الجهات المسؤولة مباشرة سواء كانت جهات دولية أو جهات داخلية ومحلية.
علي القيسي: بالنسبة الى تلك الشركات فهي تأخذ المقاولة في السجون وفق زيادة عدد السجناء وإطالة محبوسيتهم، يعني أن السجين مخصص له يومياً، من خلال كتاب رسمي زودنا فيه المحامون الأمريكان، 25 دولاراً أمريكياً في اليوم بينما السجين العراقي لدى الأمريكان يصرف عليه يومياً أقل من ربع دولار، وكلما زاد عدد السجناء كلما زادت أرباحهم.
الدكتور شعبان: هذه مسألة مهمة، وفيها معلومة قيمة.
الدكتور الطيب البكوش: المطلوب عملية توثيق شاملة، أعتقد أن هذا عمل جماعي يجب أن تقوم به منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المحامين في العراق وفي الوطن العربي والمنظمات الدولية، وأعتقد أن الآن يجب أن يكون هناك عمل لا بد من القيام به لتوثيق كل ذلك وإعداد ملف لمحاكمات دولية لهذه الجرائم ضد الإنسانية. هذا العمل أساسي، لأن ما نسمعه هو فظاعات، وهذه الفظائع إذا لم نقم بهذا العمل بصفة جدية في أقرب وقت فإن الأنظمة الدكتاتورية وغيرها ستواصل استخدام وسائل انتهاكات حقوق الإنسان وانتهاك الاتفاقيات الدولية ضد التعذيب، باعتبار أن الديمقراطيات الكبرى مثل أمريكا تمارس هذه الأشياء فتصبح أشياء عادية، رغم أن هذه الدول جميعها وقّعت وصادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب، فإذا لم يقع تشكيل وتقديم قضايا عدلية على مستوى دولي فالأمور ستبقى سيئة جداً.
الدكتور شعبان: أعطني شيئاً عن الصور تحديداً التي انتشرت.
علي القيسي: أحياناً كان عندما يأتي صديقة لهؤلاء الحرس أو المحققين، ويريد أن يأخذ صورة للذكرى، فكان يطلّع أحد السجناء، ويضعه في وضع غير طبيعي ويأخذ صورة معه للذكرى. وبعد 15 يوم سلموني بطانية وبدأوا يسرعون في عملية التحقيق، حتى أن الزنزانة بدأ يصير فيها أكثر من شخص. وكان أول شخص أخذوه أمامي شاباً اسمه شاهين من الموصل وسمعت استغاثة غير طبيعية منه، ونحن كنا قد سمعنا عن الكهرباء في السجن، وبعدما أرجعوه، جاء دوري. وأدخلوني إلى الغرفة، وكان هناك مجموعة واقفة ورفعوا الكيس من رأسي وتحدث إليّ يهودي مغربي كنا نسمّيه أبو حامد، ولكن هو يلبس ملابس الجيش الأمريكي العسكرية، وقال أننا سنصعقك بالكهرباء وهذه آخر فرصة لك فإما أن تتكلم وإما تموت بالكهرباء، وجعل وجهي على الحائط وجعلني أرى شريط كهرباء أحمر وآخر أسود، وقال بسرعة لا يوجد لدينا وقت هذه آخر فرصة لك وسنصعقك بالكهرباء ولأكثر من مرة.
الدكتور شعبان: أين هي الأماكن التي تم استخدم الكهرباء فيها.
علي القيسي: كنت لا زلت أقف على الحائط، وقال هذا هو الكرتون، هذا الكرتون يسمونه الأمريكي فود، وكانوا يستخدمونه حتى في العقوبات، وكانوا يعاقبوننا بحمله لمدة يوم كامل لأن وزنه أكثر من 25 كيلو، وقال لي ستصعد عليه وسنصعقك بالكهرباء فإذا اعترفت اعترفت أما إذا لم تعترف فعندما تقع عن الكرتون نعيد الكرة، وكان يتكلم العربية باللهجة المغربية. وأنا رفضت، وتركوا الكيس في رأسي وهم تجمعوا وكان هناك ضحك وغيره، وشعرت أنهم يمثلون أكثر من أي شيء آخر، فشعرت كإنما عيوني انقلعت من مكانها، ومثل الجرح حدث في عيوني نتيجة الكهرباء.
الدكتور شعبان: أين كان مكان الكهرباء.
علي القيسي: في اليد، وكنت أفتح يدي.
الدكتور الطيب البكوش: هل ترك التعذيب آثار، بغض النظر عن الآثار النفسية التي هي شيء آخر، أقصد آثار جسدية.
علي القيسي: أنا كان عندي تداخل جراحي وكان ممكن أن تشفى يدي لكن عادة، الشخص الذي لديه جرح أو عوق يستخدمونه في التحقيق وكانوا دائماً يدوسون عليها بالبسطال، وأتذكر مرة نزع " البانديج" منها فانتزعت طبقة من اللحم منها، وأتذكر واحدة، جاءوا بي ثلاث مرات إلى هذه الغرفة وخمس مرات صُعقت في الكهرباء، ومرة من المرات عضيت لساني وبدأ يطلع دم من حلقي من داخل الكيس. وجاءوا بدكتور مزق الكيس من رأسي وبالحذاء فتح حلقي وأدار فيه ماء ورأى الجرح في لساني، وقال (Continue).
في الحقيقة كنا أنا والأخوة المعتقلون مرات نختلق حالات ونتظاهر بأننا نعاني ألماً ما مثلاً، وكانوا يأتون بالأطباء ليفحصونا ويقولون استمروا، وللأمانة كان بعض الأطباء يشاركون في عمليات التعذيب والتحقيق.
الدكتور شعبان: وهذا فيه تجاوز أيضاً لشرف المهنة وعلى التوقيع على أن لا يستخدم العلوم الطبية ضد الإنسان لأي سبب كان.
علي القيسي: وهناك دكتور يأتي وهذا وفلان رقمه كذا ما زال قيد التحقيق فكان يمنع من العلاج. وأنا كنت أعتمد على شاب اسمه أبو حذيفة كان يخرج لنقل الزبالة وكان يجمع لي من حاوية الأزبال الحبوب ويعطينا إياها، وأمامي كان الدكتور إبراهيم علي أكبر أستاذ الفيزياء النووي في جامعة التكنولوجيا، وكان يقول لي أي حبوب تأتي إليك ابتلعها، وكان يسمعهم يتحادثون بينهم بالإنكليزية ويسألون لماذا صار في يديه غرغرينه، وكان يطلب مني أن أبلع أية حبوب تصل إليّ. وهذا الرجل كان مثل المرشد الطبي لنا وهو دكتور في الفيزياء النووي.
ومن المشاهدات التي رأيتها، وهذه كلمة أتمنى أن تفهموها ولا تأخذوها بغير معنى، إن المحرض الأساسي على الإرهاب والعنف في العراق هي المعتقلات. إن عمليات الدهم والاعتقال والانتهاك التي تحدث في العراق هي التي ينتج منها الإرهاب، وأضرب لك مثلاً وهو ناتج من معرفة، هناك شيخ وإمام وخطيب جامع يعدّ على الإسلام المعتدل، إنْ تحب أذكر لك اسمه بيننا فلا مشكلة، وعمره 75 سنة وضمن منطقته وهي التي كانت الفلوجة ولم تطلق فيها طلقة واحدة وكان الأمريكان يتجولون فيها براحتهم.
الدكتور شعبان: أول مرة أطلق صاروخ في الفلوجة، فأصاب 48 واحداً من القتلى وعشرات من الجرحى، والخلاف كان على تعيين قائمقام ومن ثم بدأ الفعل ورد الفعل، وتعاظمت المقاومة وتحدي الاحتلال.
الدكتور شعبان: نواصل حديثنا رغم المرارة ورغم الاكتئاب الذي أصابنا، لكن في نفس الوقت الإصرار على أن التعذيب ظاهرة مشينة لا بد من إدانتها ولا بد من بذل جميع الجهود لوقفها ولمنعها وبالتالي للتخلص منها كلياً. الكلمة الآن للدكتور البكوش مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس بخصوص ظاهرة التعذيب.
الدكتور الطيب البكوش: كيف تفسّر في ظل عمليات المقاومة الموجودة أنها تستهدف المدنيين في الأسواق أكثر مما تستهدف الجيش الأمريكي
الدكتور الطيب البكوش: ظاهرة التعذيب هي ظاهرة منتشرة، هذا يجب الاعتراف به، منتشرة في جميع أنحاء العالم بدرجات مختلفة في البلدان الديكتاتورية بصفة عامة التي فيها أنظمة ديكتاتورية متخلفة، التعذيب منتشر أكثر، لكن هو فيما يسمى بالديمقراطيات أقل من دون ريب، لكن ما بيّنته التجربة الموجودة الآن في العراق هو أن بعض ما يسمى بالديمقراطيات تشجع على التعذيب لأنه موجه ضد أناس تعتبرهم أقل درجة من الناحية الإنسانية من مواطنيها، هم مواطنون تعاملهم كمواطنين من درجة أخرى سفلى، وهذا ما يمثل تناقضاً غريباً. يعني قد لا نجد نفس درجات التعذيب في السجون الأمريكية بالنسبة إلى مواطنين أمريكيين ولكن الآن لكي تُفلت الإدارة الأمريكية من المتابعة ومن الانكشاف أمام وسائل إعلامها فهي الآن تقيم في أنحاء كثيرة من العالم سجوناً سرية وبعض هذه السجون موجود في البلاد العربية، وبعضها حتى في بلدان من أوروبا الشرقية، والآن يوجد تحقيق في أمريكا وتوجد محاسبة للإدارة الأمريكية على هذا. عشرات من السجون وطائرات خاصة تنقل سجناء من أفغانستان ومن العراق إلى هذه السجون السرية التي تُشرف عليها السي آي إي، والآن هذه فضيحة جديدة من الفضائح تضاف إلى غوانتانامو وتضاف إلى أبو غريب، يوجد دائماً تحايل، خرجت فضيحة أبو غريب ثم غوانتانامو والآن هناك تحايل أن السي آي إي تقيم لها سجون ومعتقلات سرية خارج الأراضي الأمريكية في بلدان أخرى عليها تعتيم إعلامي كبير حتى لا يمكن محاسبتها قضائياً في بلادها. هذا التناقض الغريب وهذه الفضيحة الكبرى التي يجب فضحها وكشفها في مجال حقوق الإنسان. إذن هو الإفلات من القوانين ومن المراقبة الموجودة في البلد بإحداث سجون ومعتقلات لا تدخل تحت طائلة القانون الأمريكي وتبقى إذن خارج تتبع القانون، ولكن يجب أن تدخل الآن تحت طائلة القانون الدولي هذا هو المهم، وهذه جرائم ضد الإنسانية وهي لا تسقط بالتقادم. وهذه مسؤوليتنا نحن كحركة حقوق الإنسان العربية بالتعاون مع حركة حقوق الإنسان الدولية لا بد من القيام إذن بالتوثيق الشامل لهذا.
الدكتور شعبان: هذه دعوة لكل جماعات حقوق الإنسان ولحركة حقوق الإنسان العربية للاهتمام بقضية التعذيب، وبخاصة دعوة الدول العربية للمصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب التي جرى التوقيع عليها عام 1984، ووضع هذه الاتفاقية موضع التطبيق. وكاقتراح أيضاً يمكن المعهد العربي مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب واتحاد الحقوقيين العرب أن ينظموا ورشة عمل متخصصة حول موضوع التعذيب وسبل مجابهة التعذيب والآليات الدولية لملاحقة منتهكي حقوق الإنسان والجهات التي تصدر أوامر التعذيب سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي. هناك حالات أيضاً يمكن متابعتها كحالات للدراسة خصوصاً سجن أبو غريب وغوانتاناموا وموضوع السجون السرية وما يجري، وهذه ثلاث ظواهر دولية إقليمية يمكن متابعتها ويمكن تنظيم ورشة عمل متخصصة على هذا الصعيد.
ويحضرني قول أثير لبشير الحاج علي أحد المناضلين الجزائريين الذي كان يتعرض للتعذيب، وكان يغطس في مغطس ثم يرفع رأسه ويغطس مرة ثانية ومن ثم يرفع رأسه مرة أخرى، وكان أحد الشباب قد أنزل للتعذيب في أحد السراديب السرية وعندما انتهت جلسة من جلسات التعذيب بين فترة وأخرى كان الشاب يردد "سنعلمهم درساً لن ينسوه، سنمارس التعذيب ضدهم مثلما مارسوه ضدنا وبالأساليب نفسها". فما كان من بشير الحاج علي إلا أن قال له "علينا أن نكنس التعذيب كظاهرة أي أن ننهي التعذيب كظاهرة، يجب أن لا نتصرف خارج نطاق الإنسانية، نحن بشر وهم بشر وعلينا أن نعمل لإنهاء هذه الظاهرة وإلغائها تماماً". هذا ما لمسته مع الحاج علي القيسي، لم ألاحظ لديه كيدية ولم ألاحظ لديه أية رغبة في الانتقام أو الثأر، حيث تعامل بمنتهى التسامح ولكن دون نسيان الذين لا بد أن يتحملوا مسؤولية هذا العمل الشائن وهذه الارتكابات التي تمس جوهر الإنسانية. السيدة جمانة لديها سؤال ومداخلة حول الموضوع.
جمانة: جرى الكلام عن الكثير من قضايا التعذيب التي حصلت في العراق، هناك جزء معتم في هذا المجال وهو التعذيب الذي تعرضت له النساء العراقيات، وكان الوضع مماثلاً للرجال، فهن تعرضن للتعذيب في السجون العراقية والأمريكية ومن ثم خرجن للعذاب الأكبر الذي كان ينتظرهن خارج السجن، عدد كبير من النساء الذين اغتصبن في سجن أبو غريب تم قتلهن فور خروجهن من السجن، وعدد كبير منهن كنّ يطلبن قتلهن لأنهن لم يستطعن أن يتحملن العقوبة الاجتماعية والنظرة الدونية لهم كنساء مغتصبات في المجتمع. وأيضاً أعتقد أن موضوع النساء من المسائل المهمة لتسليط الضوء عليها لأن النساء تعرضن لتعذيب ونتائجه كانت أقسى عليهن بشكل أكبر بكثير من الرجال. كان الرجل يخرج من السجن ويشعر بفخر لأنه عُذِّب من قبل الأمريكان بينما المرأة كانت تنتهي حياتها اجتماعياً فور خروجها من المعتقل. من المهم كثيراً أن تقوم جمعيتكم بالعمل على مواضيع النساء.
علي القيسي: لدينا قسم خاص لقضية حقوق النساء، ومع تزايد عدد النساء المعتقلات لجأنا نحن إلى المراجع الدينية، لكن الدكتور شعبان يعرف أننا نحن في العراق حساسون جداً من الحديث في هذا الموضوع، وهذا طبعاً حرمنا من أشياء كثيرة بالنسبة للفظائع التي ترتكب بحق النساء. وسعينا مع كثير من المعتقلات العراقيات وقد تم تزويجهن على سنة الله ورسوله وبدأنا نلغي هذه النظرة الدونية للمرأة، وبدأنا فعلاً بها، لكن الأمر يحتاج الى وقت ومعالجات طويلة الامد.الدكتور شعبان: هذا الأمر يحتاج إلى تكافل اجتماعي إلى وضع وبيئة طبيعية وصحية وإلى خروج الاحتلال وإنهائه، إلى تسوية مثل هذه الأمور والمتعلقات بروح مستقبلية وبروح تفائلية وبروح الضمان والتضامن الاجتماعي، بهذا المعنى.علي القيسي: نحن في الحقيقة، مع تزايد عدد المعتقلات من النساء، وهذا لأول مرة أقوله، لدينا إحصائية، هناك حوالي ألف وخمسين امرأة تم اعتقالهن في العراق. وهناك نظرة للشرع، من جانب شرعي ومن جانب عقلي ونحن نحاول أن نزاوج بين هاتين النظرتين، وبدأنا نُشعر الناس بأن المرأة التي تعتقل يجب أن تكون محط إكبار واعتزاز وافتخار كأخيها الرجل إنشاء الله، وتغيير العقلية. ويوجد هناك نظرة شرعية، المرأة مجرد ما تكون في خلوة في سجن يتم التشكيك بها، ولكن الحمد الله بدأت هذه النظرة تتغير، والله في السجن كنا نسمع أصوات نساء وكلام نساء يشد العزيمة، خصوصاً بالنسبة لنا كمعتقلين، وإنشاء الله نحن في طريقنا لتغيير هذه النظرة نهائياً، وبدأنا فيها، وحدثت في محافظة ديالى من أخواتنا المعتقلات اللواتي لم يتزوجن وتم تزويجهن من أناس يعدّون من عليّة القوم تشريفاً وتكريماً لهن.
جمانة: أريد أن أطلب " بروشور" جمعيتكم، بما فيها العنوان الكامل، لنرى إمكانية المعهد للتعاون والتدريب والمساهمة.الدكتور الطيب بكوش: سأتصل بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحاميين العرب.الدكتور شعبان: أنا سأتصل أيضاً باسم اتحاد الحقوقيين، وأنا عضو المكتب الدائم، ويمكن أن أقول من الآن أننا موافقون وسندعم هذا التوجه وحاضرون له كذلك في الشبكة العراقية والمنظمة العربية. هل لديك كلمة أخيرة تريد أن تقولها؟علي القيسي: أريد أن أوجه رسالة للشعبين الأمريكي والأوروبي وشعوب العالم كله، وبخاصة الشعب الأمريكي، فنحن في الحقيقة بدأنا في الآونة الأخيرة اتصالات مع منظمات مجتمع مدني أمريكي وبدأوا بالتجاوب معنا، وهناك من المنظمات من عيّن مترجماً خاصاً لوثائقنا وبياناتنا. في الحقيقة الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية (Amnesty) وهيومان رايتس ووتش وغيرها نحن على تنسيق دائم معهما. ما يحدث في السجون العراقية وفي العراق هو ليس جريمة بحق الشعب العراقي وحده بل جريمة بحق هذه الدول، هو جريمة بحق الإنسانية ولا يعتقدون أن حالة العراق سوف تنحصر في العراق، عملية تفريخ الإرهاب والعنف سببها الاعتقال، وبمناسبة عقد مؤتمر الأمم المتحدة الأخير صدر بيان بوجوب معاقبة من يحرض على الإرهاب. من يحرض على الإرهاب هو من ينتهك حقوق الإنسان وينتهك إنسانيته، وهؤلاء هم المحرضون الأساسيون عليه.الدكتور شعبان: بالمناسبة حتى القوانين الدولية بما فيها قانون مناهضة الإرهاب البريطاني على سبيل المثال، قرر هذا القانون، بغض النظر عن الملاحظات عليه، متابعة جميع الذين يخططون لتنفيذ عمليات إرهابية، وبموجبه يمكن ملاحقة الرئيس بوش واتصالاته برئيس الوزراء البريطاني بوثيقة سرية بشأن قصف مقر تلفزيون الجزيرة ومقار الجزيرة في بلدان مختلفة، هذا ليس فقط تحريض على الإرهاب ولكن هذا شروع بعمل إرهابي، بما يتابعه القانون الدولي والقوانين الداخلية في عدد من البلدان بما فيها قانون مناهضة الإرهاب البريطاني.علي القيسي: ثمة ملاحظة، إن شخصاً عمره 75 سنة لا يكتفون بسحبه من لحيته ولكن يجبرونه على لبس " مايوه بيكيني" الخاص بالبحر، ويشغلون له الموسيقى الصاخبة، وعندما يرفض أن يرقص، وبعد ساعة وبعد أن يركزوا عليه خمسة كاميرات يحضرون له فيلماً قاموا بدبلجته بأنه كان يرقص، وهذا يحدث أمام 25 أو 40 شخص من أخ وابن أخ من أقاربه، وهذا كلام أتحرج أن أقوله أمام النساء، وعندما شخص يُطلب منه أن يمارس الجنس مع المجندة ويرفض، يكون جزاؤه أن تلبس جهاز تناسل اصطناعي وتغتصبه، ويُطلق سراحه بعد 15 يوماً كونه من الاعتقالات الخاطئة ويقوم بعملية تداخل جراحي، هكذا يحصل فكيف يمكن أن يتم امتصاص العنف والغضب الذي في داخله. أو من امرأة تغتصب أمام أعيننا وأمام أعين عشرة أو خمسة عشر شخصاً وهم معروفون، فكيف تُطلب منهم الغفران أو النسيان ولعل هذا هو المولّد الأساسي للعنف.
الدكتور شعبان: شكراً جزيلاً لكم وشكراً على حضوركم، والشكر لمركز دراسات الوحدة العربية الذي استضافنا، الشكر موصول إلى الأستاذ علي القيسي على تحمله لأسئلتنا اللجوجة الملحة التي ذكرته بمأساة حقيقية، على الرغم من أننا نحن جميعنا نعيش هذه المأساة، إلاّ أنه وقع الظلم عليه مضاعف وعانى ما عاناه ويقوم الآن بمهمة جليلة ودور مشرف في فضح التعذيب وفي فضح الانتهاكات التي يتعرض لها المواطن العراقي بعد الاحتلال، وما يتم على أيدي السجانين الأمريكان والشركات المتعاقدة معهم فضلاً عن السجون العراقية الأخرى. شكراً جزيلاً لكم مرة أخرى والسلام عليكم.
المصدر: مجلة المستقبل العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق