اجتذب الجنود أركان صبحي من مخدعه قبيل الفجر، بينما تعالت أصواتهم بالصياح وانهالوا عليه بالضرب ببنادقهم في مشهد أصبح معتادا داخل الضواحي السنية من بغداد. وبذلت أسرته محاولة عقيمة للمضي قدما عبر نظام العدالة الجنائية الذي اختفى داخله صبحي بمجرد اعتقاله في يوليو (تموز)، في قصة تكرر حدوثها وخلقت في نفوس السنة عبر مختلف أرجاء البلاد شعورا بالحرمان والغضب.بالنسبة لصبحي، فقد أكدت زوجته، بسمة علي (22 عاما) أنه «ليس هناك دليل ضده. هذه الحكومة لا تسعى سوى للانتقام من الشعب». ويعد صبحي واحدا من عدد لا حصر له من الرجال السنة الذين سقطوا في شرك النظام القضائي العراقي المزدحم بالأعمال والمفعم بالفساد. في بلاد تحاول ببطء تجاوز محنة حرب طائفية طاحنة عصفت بها، تحول أسلوب التعامل مع المحتجزين السنة إلى واحدة من أخطر القضايا القابلة للانفجار في أي لحظة.ومع انحسار إشراف المؤسسة العسكرية الأميركية على قوات الأمن العراقية التي تزداد قوة يوما بعد آخر، تتهم الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة باستغلال قوات الأمن في تهميش السنة. ورغم أنه لم تعد قطاعات من قوات الأمن ترتكب أعمال تطهير عرقي، مثلما فعلت من قبل خلال ذروة الحرب عام 2007. إلا أنه في أعقاب عدد من الهجمات الخطيرة عبر أرجاء المدينة في الشهور الأخيرة، ألقي القبض على المئات من الرجال السنة في غارات واسعة، غالبا من دون استصدار إذن يسمح بالاعتقال.ويقول أقارب الرجال المسجونين إن بعضهم أفرج عنه وحملت أجسادهم علامات التعرض للتعذيب وحكوا قصصا مروعة حول إجراءات التحقيق العنيفة داخل مراكز الشرطة.من ناحية أخرى، تعرض آخرون، مثل صبحي، للاختفاء داخل نظام العدالة الجنائية العراقي بالغ التعقيد، مما يترك أقاربهم عرضة للاستغلال من قبل جماعة من فاسدين يقدمون أنفسهم باعتبارهم على صلة بنظام المحاكم. ويتقاضون رشى مقابل مجموعة من الخدمات تشمل الكشف عن مكان احتجاز مسجونين والإسراع في النظر في قضايا وترتيب إجراء محادثات هاتفية بين مسجونين وذويهم.ورغم أن السنة يشكلون الغالبية العظمى من المحتجزين، أشار أيضا أكراد وشيعة لتعرضهم للتعذيب أثناء احتجازهم. من جهتها، اعتادت حكومة إقليم كردستان بشمال العراق احتجاز أفراد من دون توجيه اتهامات لهم، واتهمت المنظمات المعنية بحقوق الإنسان قوات الأمن التابعة لها بضرب المحتجزين. وتشير مزاعم لتعرض أعضاء الميليشيات العراقية لاعتداءات داخل السجون، لكن حلفاءهم السياسيين غالبا ما ينجحون في التفاوض لإطلاق سراحهم. وأثارت إعادة تعيين رئيس الوزراء نوري المالكي، الشيعي، هذا الشهر مخاوف السنة من استمرار الاعتداءات من دون رادع، نظرا لعجز الزعامات السنية عن الحصول على وعود جازمة بشأن إجراء إصلاحات في أسلوب التعامل مع المحتجزين كجزء من اتفاق لتشكيل الحكومة.عن ذلك، قال إبراهيم أحمد (42 عاما) ابن عم صبحي: «سرعان ما سيجد السنة أنفسهم مثل الفلسطينيين. سيجري الضغط علينا، وفي النهاية لن يتبقى لنا سوى مسجد سني واحد». بعد الثالثة صباح اليوم التالي بقليل، اقتحمت حشود من أفراد الأمن، بعضهم في ملابس مدنية وآخرون بملابس عسكرية، منازل قريبة من موقع الحادث واحتجزوا العشرات. كان صبحي شبه عار عندما ألقي القبض عليه مع شقيقه. وقال أقاربهما إن زوجته وطفلتيه البالغتين من العمر 8 أشهر وعامين شرعن في العويل والنحيب، بينما انقض عليهن الضباط بالضرب. وقالت والدته، نجوى رازق الحمزة (54 عاما) بنبرة غلب عليها الأنين: «كنت أتمنى لو كان هناك أميركيون برفقتهم، حينها لم يكونوا ليظهروا هذا القدر من الوحشية واللإنسانية».على مدار اليومين التاليين، فرضت قوات الأمن العراقية حظر تجول على الأعظمية، وحالت دون خروج المقيمين بالحي منه وأعاقت الشاحنات المحملة بالطعام من الدخول. واحتجز خلال هذه الغارات نحو 300 رجل، حسبما أفادت قيادات دينية ومحامون من الحي. وقال عمار الأعظمي، المحامي: «لم يفرقوا بين شيخ وشاب. وليست لدينا أدنى فكرة عن مكان احتجازهم. حتى في عهد صدام، عندما كانوا يحتجزون شخصا ما، كانوا يخبرون أسرته بمكان احتجازه». وقد زارت شخصيات سياسية سنية بارزة الأعظمية بعد الهجوم ووعدت بالسعي لإطلاق سراح الأبرياء. وبالفعل، أطلق سراح بضع عشرات في غضون أسابيع من الغارة، بمن فيهم شقيق صبحي، الذي أخبر أقاربه أنه تعرض لصدمات كهربية أثناء التحقيق معه.لكن لم ترد أنباء عن صبحي مع انقضاء الصيف وبدء الخريف. ومع عجز الأسرة عن سداد أجر منزلها الشهري البالغ 400 دولار، اضطرت زوجته لبيع الأثاث والانتقال للعيش مع والديها. واقترح بعض المعارف ممن علموا بأمر محنة الأسرة الإسهام في عقد اتصال بين الزوجة، بسمة، وسيدة من المفترض أنها متخصصة في قضايا المحتجزين المختفين. ولم تتردد بسمة أن تبيع كل حليها الذهبية التي حصلت عليها كهدية زفاف. وقالت: «قدم إلينا أشخاص وأخبرونا أن بإمكانهم إطلاعنا على معلومات عن زوجي مقابل 800 دولار. وادعوا حصولهم على هذه المعلومات من داخل المنطقة الخضراء»، وهي منطقة آمنة في بغداد تشكل قلب الحكومة.وقالت بسمة إنها دفعت 1000 دولار، وهو كل ما كان بحوزتها، «لكن حتى الآن لم نصل لشيء».الملاحظ أن الرجال السنة تعرضوا لحملات اعتقال جماعية بشمال وغرب العراق، طبقا لما ذكره أقارب ومحامون وسياسيون. وتعرضت الحكومة لانتقادات شديدة في يونيو (حزيران) بعد الكشف عن وجود سجن سري ببغداد احتجز بداخله العشرات من محافظة نينوى. وسيطر على السجن لواء من الجيش كان يقدم تقاريره إلى رئيس الوزراء المالكي فقط. واشتكى محتجزون من تعرضهم لاعتداءات بدنية وجنسية، طبقا لما أفاد به نشطاء بمجال حقوق الإنسان.داخل منازل السنة المفقودين، وصف أقاربهم المحن التي يعانونها هذه الأيام بنبرة غلب عليها الاستسلام، لكن بعضهم أكد أن الوضع قد يصل لنقطة الانفجار. وقال شافعي عبد الله (40 عاما) مقيم بضاحية الكرمة بغرب محافظة الأنبار، الذي تعرض الكثير من أقاربه للاحتجاز: «هذه حكومة طائفية. ولا يمكن للمرء الشعور بالأمان الآن داخل منزله. وإذا استمر الوضع على هذا المنوال، سنتحول جميعا لإرهابيين. على الأقل حينها سنموت من أجل هدف، وهو الدفاع عن منازلنا وأراضينا». يذكر أن مراكز الاحتجاز العراقية التي تديرها وزارة العدل تضم نحو 30,200 سجين، بينهم 11,750 في انتظار المحاكمة. وهناك عدد غير معروف لم تتم محاكمتهم محتجزين داخل مراكز الشرطة وبمنشآت تتبع الجيش. وفي تقرير لها هذا العام، قدمت منظمة العفو الدولية تقديرا أعلى، مشيرة إلى أن عدد المسجونين الذين لم تتم محاكمتهم ربما يصل إلى 30,000.ولا تتوافر أرقام رسمية حول الفئات الديموغرافية التي ينتمي إليها المسجونون، لكن الغالبية العظمى منهم - ربما 80%، طبقا لتقديرات محامين وقضاة عراقيين - من السنة. وأشار قضاة ومحامون إلى أن مسؤولي الشرطة غالبا ما يبدون ترددا حيال نقل المسجونين رسميا إلى نظام العقاب الرسمي بسبب ضآلة معدلات الإدانة، التي تتراوح بين 10% و20%. بدلا من ذلك، ينزل العقاب بالمسجونين بصورة أساسية داخل مراكز الشرطة، تبعا لما أفاد به محامون ومسجونون سابقون.وقالت إيمان نعمان صالح، محامية دفاع ببغداد: «يتعرض السجناء للصعق الكهربي والضرب والتعليق من الأرجل. لكن الصعق الكهربائي يشكل الأداة المفضلة لدى المسؤولين لأنها لا تترك آثارا». رغم ملايين الدولارات التي وجهتها الولايات المتحدة لمبادرات لفرض حكم القانون على العراق، زادت القضايا المعلقة بالمحاكم في بغداد، الأكثر ازدحاما بالقضايا على مستوى البلاد، بنسبة 10% خلال الشهور الأخيرة. ويعود أحد الأسباب وراء ذلك إلى نقل الآلاف من السجناء لدى المؤسسة العسكرية الأميركية إلى سجون عراقية، مما زاد من أعباء نظام العدالة الجنائية بالبلاد.من ناحيته، قال دارا نور الدين، وزير العدل العراقي، إن وزارتي الداخلية والدفاع أبدتا ترددا إزاء تسليم منشآت الاحتجاز الخاصة بهما لوزارة العدل، حسبما ينص القانون. وقال: «ليست لدينا سلطة على منشآت الاحتجاز تلك»، في إشارة إلى المسجونين بمنشآت تتبع الجيش والشرطة. ولدى سؤاله عن عمليات إلقاء القبض داخل الأعظمية، بدا بوشو إبراهيم، وكيل وزارة العدل، غاضبا وقال: «هل تتحدث عن الجرائم التي اقترفها هؤلاء الوحوش؟ لقد قتلوا رجال شرطة وأحرقوهم، وأنت تتحدث عن حقوق الإنسان؟ لو كان الأمر بيدي، لكنت أعدمتهم بنفس المكان الذي ارتكبوا فيه جرائمهم. العين بالعين». داخل الأعظمية، لا تزال أسرة صبحي في انتظار أي أخبار عنه، سواء موعد محاكمة أو قرار إطلاق سراحه. وتسأل ابنته البالغة عامين عنه باستمرار. وأوضحت زوجته «نخبرها أنه مسافر خارج البلاد، وعندما يعود سيحضر لها دمية».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق